رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 30 أكتوبر، 2023 0 تعليق

أدّب ولدك بالأمثال (3) النَّفْسُ عَزُوفٌ أَلُوفٌ

  • على المسلم أن يتحرى الخير ويستكثر منه ويعود نفسه عليه حتى يصبح له عادة وتصبح نفسه له مطواعة
  • الإنسان خلق من طين أرضي وروح سماوية ولكل طبيعة حاجاتها ومطالبها والموفق من وازن بينهما وأعطى كل ذي حق حقه
  • الإنسان في الدنيا لا يخلو من عوائق ومؤثرات تصده عن سبيل الخير ولا سيما نفسه الأمارة بالسوء فهو بحاجة إلى توفيق من الله -تعالى- وإعانته
 

هذا المثل ذكره الميداني في مجمع الأمثال، وهو يوضح حقيقة النفس الإنسانية، وما جبلت عليه من الانقياد لما تعوّد عليه من الخير أو الشر، فقال: «ومعنى المثل: أن النفس تعتاد ما عُوِّدّتْ؛ إنْ زَهَّدْتها في شيء زهِدَتْ، وإن رَغَّبْتها رَغِبَتْ».

           ويؤيد هذا ما أكده عمرو بن العاص بقوله: «المرء حيث يجعل نفسه، إن رفعها ارتفعت، وإن وضعها اتضعت»، ونقل عن بعض الحكماء قوله: «النفس عَرُوفٌ عَزُوفٌ، وَنَفُورٌ أَلُوفٌ، متى ردعتها ارتدعت، ومتى حملتها حملت، وإن أصلحتها صلحت، وإن أفسدتها فسدت». وصاغ البوصيري هذا المعنى في بردته بعبارات رشيقة، وأبيات عميقة فقال:

والنفسُ كالطفلِ إن تهملهُ شَبَّ على

                                                   حُبِّ الرَّضاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِم

فاصرفْ هواها وحاذرْ أنْ تُوَلِّيَهُ

                                                   إنَّ الهوى ما تولَّى يُصمِ أوْ يَصمِ

وَراعِها وهيَ في الأعمالِ سائِمةٌ

                                                   وإنْ هِيَ اسْتَحْلَتِ المَرْعَى فلا تُسِم

كَمْ حَسَّنَتْ لَذَّةٍ لِلْمَرءِ قاتِلَةً

                                                   من حيثُ لم يدرِ أنَّ السُّمَّ في الدَّسَمِ

             وهذا المثل السائر يشير إلى ما سبق إليه القرآن الكريم من حقائق أكيدة حول النفس البشرية في أصل خلقتها، وما تحمله من استعداد فطري للحق أو الباطل، وما فيها من ازدواجية الخلق والمقاصد؛ فالإنسان خلق من طين أرضي وروح سماوية، كما قال -تعالى-: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (ص:71-72)، ولكل طبيعة حاجاتها ومطالبها، والموفق من وازن بينهما، وأعطى كل ذي حق حقه.

فمن الحقائق القرآنية المهمة:

  • أولا: أصل البشرية من نفس واحدة
قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} (النساء:1) والمراد بالنفس الواحدة هنا آدم -عليه السلام. وفي حجة الوداع قال النبي -صلى الله عليه وسلم - في خطبته:» يا أيُّها النَّاسُ إنَّ ربَّكمْ واحدٌ، وإنَّ أباكمْ واحدٌ، ألا لا فَضلَ لعربيٍّ على عَجميٍّ، ولا لعَجميٍّ على عَربيٍّ، ولا لأحمرَ على أسوَدَ، ولا لأسوَدَ على أحمرَ، إلَّا بالتَّقوَى، إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقاكُمْ». فلا مجال للفخر ولا العصبية.
  • ثانيا: النفس البشرية قابلة للاختيار بين الحق والباطل
فطر الله -تعالى- النفس البشرية على معرفة الحق والباطل، فقال -سبحانه-: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (الشمس:7-8)، قال الطبري:» فبيـّن لها ما ينبغي لها أن تأتي أو تذر من خير أو شرّ، أو طاعة أو معصية، ونقل عن ابن عباس قوله: «يقول: بَيَّنَ الخيرَ والشرَّ». وفي رواية قال: «علَّمها الطاعة والمعصية». وقال -تعالى عن الإنسان-: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (البلد:10)، قال ابن مسعود وعلي وابن عباس وغيرهم في معنى النجدين: «الخير والشر». وقال القاسمي: «أي: أودعنا في فطرته التمييز بين الخير والشر». وقال -سبحانه-: {إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} (الإنسان: 3)، قال القرطبي: «أي: بيـّنا له وعرّفناه طريق الهدى والضلال، والخير والشر ببعث الرسل، فآمن أو كفر». فليس لأحد أن يدعي العجز عن معرفة الخير والعمل به؛ إذ هو مغروس في أصل فطرته، وقد قامت عليه حجة الله -تعالى- ببعثة الرسل وإنزال الكتب.
  • ثالثا: المسؤولية فردية عن تصرفات النفس الإنسانية
يقرر القرآن الكريم في مواطن عديدة أن البعث حق، والجزاء ثابت، والمساءلة فردية، فكل امرئ مسؤول عن كسبه ومجازى عليه فقال -سبحانه-: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} (البقرة:48)، قال ابن كثير: «أي: لا يغني أحد عن أحد كما قال: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الأنعام: 164)». وقال -سبحانه-: {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} (يونس:108)، قال ابن سعدي:» {فَمَنِ اهْتَدَى} بهدى الله بأن علم الحق وتفهمه، وآثره على غيره فلِنَفْسِهِ، والله -تعالى- غني عن عباده، وإنما ثمرة أعمالهم راجعة إليهم. {وَمَنْ ضَلَّ} عن الهدى بأن أعرض عن العلم بالحق، أو عن العمل به، {فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} ولا يضر الله شيئًا، فلا يضر إلا نفسه». وهذا يؤكد أهمية العمل على الأخذ بأسباب النجاة من العلم النافع والعمل الصالح والاعتقاد الصحيح والخلق القويم والتخلي عن الرذائل في الاعتقاد والعبادات وفعل المحرمات.
  • رابعا: الفلاح والنجاة في تزكية النفس الإنسانية
قال -تعالى-: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} (الشمس:9)، قال الطبري: «يقول: قد أفلح من زكَّى الله نفسه، فكثَّر تطهيرها من الكفر والمعاصي، وأصلحها بالصالحات من الأعمال». وقال -سبحانه-: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} (الأعلى:14)، قال ابن كثير: «أي: طهر نفسه من الأخلاق الرذيلة، وتابع ما أنزل الله على الرسول - صلى الله عليه وسلم ». وقال -تعالى-: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعات:40-41)، قال ابن سعدي:» أي: خاف القيام عليه ومجازاته بالعدل، فأثر هذا الخوف في قلبه فنهى نفسه عن هواها الذي يقيدها عن طاعة الله، وصار هواه تبعا لما جاء به الرسول، وجاهد الهوى والشهوة الصادين عن الخير، {فَإِنَّ الْجَنَّةَ} المشتملة على كل خير وسرور ونعيم {هِيَ الْمَأْوَى} لمن هذا وصفه».

عوائق ومؤثرات

        والإنسان في الدنيا لا يخلو من عوائق ومؤثرات تصده عن سبيل الخير، ولا سيما نفسه الأمارة بالسوء، فهو بحاجة إلى توفيق من الله -تعالى- وإعانة، وإلى مجاهدة نفسه وأعدائه كما قال -سبحانه-: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت:69)، قال ابن سعدي: «بذلوا مجهودهم في اتباع مرضاته». وقال - صلى الله عليه وسلم -: «المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله» (أخرجه الترمذي).

مجاهدة النفس أربع مراتب

ومجاهدة النفس أربع مراتب ذكرها ابن القيم:
  • إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين.
  • الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.
  • الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه ولا ينجيه من عذاب الله.
  • الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق ويتحمل ذلك كله لله.
فعلى المسلم أن يتحرى الخير، ويستكثر منه، ويعود نفسه عليه حتى يصبح لها عادة، وتصبح نفسه له مطواعة، فعن معاوية قال: «عَوِّدُوا أَنْفُسَكُمُ الْخَيْرَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «الْخَيْرُ عَادَةٌ وَالشَّرُّ لَجَاجَةٌ، وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» (أخرجه ابن ماجه).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك