رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 23 أكتوبر، 2023 0 تعليق

أدّب ولدك بالأمثال (2 ) إن من فقهك رفقك في معيشتك

  • غنى النفس يحصل بغنى القلب بأن يفتقر العبد إلى ربه في جميع أموره فيتحقق أنه المعطي المانع فيرضى بقضائه ويشكره على نعمائه
  • الفرق بين القناعة والقصد أن القصد ترك الإسراف والتقتير جميعا والقناعة الاقتصار على القليل
  • إنما تنال مكارم الأخلاق وأشرف العادات بالعلم ثم العمل وقبل ذلك صدق الاستعانة بالله تعالى
 

يشكو بعض الناس من غلاء الأسعار، وارتفاع كلفة المعيشة، وقلة الرواتب، مما له أثر سلبي على حياتهم الأسرية وتلبية طلبات أفرادها، وهو أمر واقع، وحقيقة لا جدل فيها، ومن الأمور التي ينصح بها هو الاقتصاد في المصروفات، والاستغناء عن بعض الكماليات إن أمكن.

     فمراجعة أولية لبعض موارد بعض الناس ومصروفاتهم، تجد أنه يمكن توفير بعض الأموال للمهمات إذا تنازلنا عن بعض الكماليات، فصرف الأموال على شراء الدخان مثلا، وبذل النقود لشراء الهواتف الجديدة، أو الاستغراق في مكالمات زائدة تستهلك رصيد الإنسان في أمور قليلة الأهمية، ونحو ذلك مما يخيل للمرء أهميته، وعند التأمل تجده قابلا للاستغناء عنه وتوفير قيمته لما هو أهم.

القناعة كنز لا ينفد

أخرج الإمام أحمد في الزهد عن يونس بن عبيد قال: «كان يقال: التودد إلى الناس نصف العقل، وحسن المسألة نصف العلم، والاقتصاد في المعيشة يلقي عنك نصف المئونة». وعَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ أَنَّ رَجُلًا رَقَى إِلَي أَبِي الدَّرْدَاءِ وَهُوَ يَلْتَقِطُ حَبًّا، فَكَأَنَّهُ اسْتَحْيَا فَقَالَ لَهُ: «ارْتَقِ أَوِ اصْعَدْ، إِنَّ مِنْ فِقْهِكَ رِفْقَكَ فِي مَعِيشَتِكَ»، قوله: «رفقك في معيشتك»: أي: تخفيفك في أسباب المعيشة، والاكتفاء بأقل ما تيسر منها. فالقناعة كنز لا ينفد، قال ابن الأثير: «لأن الإنفاق منها لا ينقطع، كلما تعذر شيء من أمور الدنيا قنع بما دونه ورضي».

القناعة صفة حميدة

والقناعة صفة حميدة وخلق مرغوب؛ لأنها تدل على الرضى، يقال: قنع فلان بما قسم له: إذا رضي به واكتفى به. قال الجرجاني: «القناعة في اللغة: الرضا بالقسمة»، وقال الراغب: «القناعة: الرضا بما دون الكفاية». وقال العسكري في الفروق اللغوية: «الفرق بين القناعة والقصد، أن القصد ترك الإسراف والتقتير جميعا، والقناعة الاقتصار على القليل، ألا ترى أنه لا يقال: هو قنوع إلا إذا استعمل دون ما يحتاج إليه، ومقتصد: لمن لا يتجاوز الحاجة ولا يقصر دونها. وقيل: الاقتصاد من أعمال الجوارح؛ لأنه نقيض الإسراف وهو من أعمال الجوارح، والقناعة من أعمال القلوب».

حث الشرع على القناعة والرضى

      وقد حث الشرع المطهر على القناعة والرضى، فمن ذلك دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحياة الطيبة لمن حقق التوحيد ولزم القناعة، فعن فضالة بن عبيد أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «طُوبى لمَنْ هُدي إلى الإسلام، وكان عيشُه كفافًا وقنِع». أخرجه الترمذي وصححه الألباني. قال المناوي: «طوبى: تأنيث أطيب، أي: راحة وطيب عيش حاصل»، وقوله: «وكان عيشه كفافا» أي: بقدر كفايته لا يشغله ولا يطغيه».

سبيل للفلاح  والظفر بالمطلوب

وبينّ أن الاتصاف بالقناعة سبيل للفلاح والظفر بالمطلوب، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قد أفلح من أسلم، ورُزِق كفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه». أخرجه مسلم. قال المباركفوري:» قوله:(قد أفلح) أي: فاز وظفر بالمقصود، (من أسلم) أي: انقاد لربه (ورزق) أي: من الحلال (كفافا) أي: ما يكف من الحاجات ويدفع الضرورات (وقنعه الله) أي: جعله قانعا بما آتاه». ويوضح النووي معنى الكفاف بأنه: الكفاية بلا زيادة ولا نقص، قال: «وفيه فضيلة هذه الأوصاف».

وصية النبي - صلى الله عليه وسلم 

      وأوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بوصايا عظيمة النفع منها القناعة، فعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:» يا أبا هريرةَ كن ورعًا تكن أعبدَ الناسِ، وكن قنعًا تكن أشكرَ الناسِ، وأحبَّ للناسِ ما تحبُّ لنفسِك تكن مؤمنًا، وأحسِنْ جوارَ من جاورَك تكن مسلمًا، وأقِلَّ الضحكَ فإنَّ كثرةَ الضحكِ تميتُ القلبَ». أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني.

المفهوم الحقيقي  للغنى والفقر

       ويصحح النبي - صلى الله عليه وسلم - مفهوم الغنى والفقر الحقيقي المتبادر لأذهان الناس فقال:» يا أبا ذَرٍّ أَتَرَى أنَّ كثرةَ المالِ هو الغِنَى؟ إنما الغِنَى غِنَى القلبِ، والفقرُ فقرُ القلبِ، مَن كان الغِنَى في قلبِه، فلا يَضُرُّه ما لَقِيَ من الدنيا، ومَن كان الفقرُ في قلبِه، فلا يُغْنِيهِ ما أُكْثِرَ له في الدنيا، وإنما يَضُرُّ نَفْسَه شُحُّها» أخرجه النسائي وصححه الألباني. وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:» ليسَ الغنى عن كثرةِ العَرَضِ ولَكنَّ الغِنى غنى النَّفسِ» متفق عليه. قال النووي:» العَرَض: متاع الدنيا، ومعنى الحديث: «الغني المحمود غنى النفس، وشبعها، وقلة حرصها، لا كثرة المال مع الحرص على الزيادة؛ لأن من كان طالبا للزيادة لم يستغن بما معه، فليس له غنى». ويحمل ابن بطال الحديث على من طلب الزيادة بغض النظر عن مصدرها فقال: «معنى الحديث ليس حقيقة الغنى كثرة المال؛ لأن كثيرًا ممن وسع الله عليه في المال لا يقنع بما أوتي؛ فهو يجتهد في الازدياد، ولا يبالي من أين يأتيه؛ فكأنه فقير لشدة حرصه، وإنما حقيقة الغنى غنى النفس، وهو من استغنى بما أوتي، وقنع به ورضي، ولم يحرص على الازدياد، ولا ألح في الطلب، فكأنه غني».

الغنى النافع والممدوح

      ويوجه القرطبي الحديث إلى معنى آخر، وهو إنَّ الغنى النافع أو العظيم أو الممدوح هو غنى النفس، فقال:» وبيانه أنه إذا استغنت نفسه كفَّت عن المطامع، فعزَّت وعظمت، وحصل لها من الحظوة والنزاهة، والشرف والمدح أكثر من الغنى الذي يناله من يكون فقير النفس لحرصه، فإنه يورطه في رذائل الأمور، وخسائس الأفعال؛ لدناءة همته وبخله، ويكثر من يذمه من الناس، ويصغر قدره عندهم، فيكون أحقر من كل حقير، وأذل من كل ذليل».

سبب القناعة

ويوضح ابن حجر أن سبب القناعة هو تصحيح الإيمان وقوة اليقين فقال:» غنى النفس إنما ينشأ عن الرضا بقضاء الله -تعالى-، والتسليم لأمره، علماً بأن الذي عند الله خير وأبقى فهو معرض عن الحرص والطلب». وقال: «وإنما يحصل غنى النفس بغنى القلب؛ بأن يفتقر إلى ربه في جميع أموره، فيتحقق أنه المعطي المانع، فيرضى بقضائه، ويشكره على نعمائه، ويفزع إليه في كشف ضرائه، فينشأ عن افتقار القلب لربه غنى نفسه عن غيره». وإنما تنال مكارم الأخلاق وأشرف العادات بالعلم ثم العمل، وقبل ذلك صدق الاستعانة بالله -تعالى-، ولهذا كان من دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «اللَّهُمَ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي، وَبَارِكْ لي فِيهِ، وَاخْلُفْ عَلَيَّ كُلَّ غَائِبَةٍ لِي بِخَيْرٍ».أخرجه الحاكم، وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الحافظ ابن حجر. ومن كلام شيخ الإسلام:

وجدت القناعة ثوب الغنى

                               فصرت بأذيالها أمتسك

فألبسني جاهها حلــــــــة

                               يمر الزمان ولم تنتهك

فصرت غنيا بلا درهــم

                               أمر عزيزا كأني ملك

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك