رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: فَتْحي بِن عَبدِ الله المَوْصِليِّ 24 يناير، 2024 0 تعليق

أخلاق الكبار – بعد الهزيمة العسكرية كما بيّنها القرآن

 

  • الأمة تحتاج إلى اللين لتعالج به أزماتها وتحتاج إلى أصحاب القلوب الصافية الرقيقة لتصحيح واقعها وتحتاج إلى جبر الخواطر لتداوي جراحها وتحتاج إلى الاجتماع على قدواتها لتدفع عدوها
 

أدقّ مرحلة تمر بها الأمة هي مرحلة ما بعد الهزيمة العسكرية والانكسارات النفسية؛ فهذه مرحلة مهمة وخطيرة تُكشف فيها معادن الرجال، وتُمتحن بها القيم والأخلاق، ويُختبر بها أصحاب الدين والمروءات، ولقد بيّن القرآن الأخلاق الكاملة والصفات الجامعة للمؤمنين بعد وقوع الهزائم العسكرية والانكسارات النفسية في معركة أحد، وهي المعركة التي خالف فيها نفرٌ من المسلمين أوامر النبي - صلى الله عليه وسلم - تسببت هذا المخالفة بضرر كبير وخطب عسير على الإسلام والمسلمين.

        وبعد أن وضعت الحرب أوزارها وذهبت كل طائفة تداوي جراحها، وذهب المسلمون يدفنون بأيديهم أكابر الصحابة -رضي الله عنهم-، وقد بلغت القلوب الحناجر في مشهد عظيم، ترى أن الذين كانوا سببا في الهزيمة ينظرون ويترقبون كيف سيعاملهم النبي -صلى الله عليه وسلم - على صنيعهم؟

فقه المناصحة والمعالجة

        وفي هذا الموضع العظيم وفي هذا الحدث الكبير نزل القرآن في بيان فقه المناصحة والمعالجة لا أسلوب الغلظة والمعاقبة؛ فقال -تعالى- في سورة آل عمران: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}، وهنا حقائق مهمة في الآية في مجال الأخلاق القرآنية بعد الهزيمة العسكرية، وهي:

الحقيقة الأولى

        أن أسلوب اللين بمعناه الشرعي هو أكمل وسيلة وفضيلة لمعاجلة الأخطاء والتعامل مع الهفوات والزلات، واللين الشرعي: هو الذي يكون بلا ضعف ولا مجاملة ولا مبالغة؛ فهو لين الهدف منه تصحيح الأفكار، والوعي في التعامل مع الأحداث، والإعانة على القيام بمصالح الدين والدنيا؛ لهذا قال صاحب التحرير والتنوير في تفسير الآية: (فكان لينه - صلى الله عليه وسلم - رحمةً من الله بالأمة في تنفيذ شريعته دون تساهل وبرفق وإعانة على تحصيلها). فاللين في معناه الشرعي هو أسلوب من أساليب المعاجلة التربوية النفسية؛ فلا يلزم من اللين في الشرع الضعف، بل هو عنوان الحكمة والقوة والرفق.

الحقيقة الثانية

        الأمة بعد الهزيمة العسكرية لا تنتفع في هدايتها واجتماع كلمتها وترميم حصونها وتضميد جراحها إلا من أصحاب القلوب الصافية الرقيقة الرحيمة، كما وصفها ابن القيم: «فيرى الحق والهدى بصفائه، وتحصل منه الرأفة والرحمة والشفقة برقته»؛ أما أصحاب القلوب الحجرية القاسية أو أصحاب القلوب المائية الضعيفة، فهؤلاء لا يصلحون لا للتربية ولا للتنقية ولا يكون دورهم نافعا في معالجة النوازل والفتن الواقعة؛ لهذا بيّن القرآن هذا المعنى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}، ـ فحري بصاحب القلب الحجري بعد الهزيمة العسكرية أن يصمت، مثلما حري بصاحب القلب المائي أن يكف عن التنظير.

الحقيقة الثالثة

         وهي جبر الخواطر بأهل المصيبة ومن كان سبباً في الهزيمة العسكرية والانكسارات النفسية جبراً لا يفضي إلى كسر معالم الهدى ولا إلى رفع منار الضلالة، وقد بيّنه القرآن بياناً شافياً: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ}، يقول العلامة ابن سعدي في تفسير الآية: «أمر الله -تعالى- رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يعفو عنهم ما صدر منهم من تقصير في حقه - صلى الله عليه وسلم -، ويستغفر لهم في التقصير في حق الله، فيجمع بين العفو والإحسان».

الحقيقة الرابعة

الاهتداء بالحق والهدى حتى يتحول النزاع إلى اجتماع، لهذا تحول الخلاف في معركة أحد إلى اجتماع، وربما تحول الاجتماع في زماننا إلى خلاف.

الحقيقة الخامسة

        وهي تحويل الهزيمة إلى نصر، وكان المنطلق لهذا التغيير والتحويل هو اعتماد أسلوب المشاورة والمناصحة في بحث قضايا الامة بلا مكابرات حزبية ولا مهاترات منفعية ومن غير مزايدات سياسية؛ لهذا ختمت الآية: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر}، ثم يأتي السبب الشرعي الأكبر والأعظم، وهو الاعتماد على الله -تعالى- والتوكل عليه: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}. فالأمة - اليوم - بعد هذه الانكسارات والتحديات تحتاج إلى اللين لتعالج به أزماتها، وتحتاج إلى أصحاب القلوب الصافية الرقيقة لتصحيح واقعها، وتحتاج إلى جبر الخواطر لتداوي جراحها، وتحتاج إلى الاجتماع على قدواتها لتدفع عدوها، وتحتاج إلى توظيف الهزيمة لصالحها حتى تكون منطلقا إلى النصر والتمكين.  

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك