رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 9 يناير، 2024 0 تعليق

أخلاق الإسلام في الحرب (١) شريعة الإسلام تلتزم الأخلاق والقيم وتسعى لتحقيقها

  • الحروب العالمية اتبعت سياسة الأرض المحروقة التي تقوم على إبادة كل مظاهر الحياة في المدن حتى غابت الإنسانية والأخلاق تمامًا عن هذه الحروب
 

من أعظم ما تتميز به شريعة الإسلام أنها شريعة أخلاقية، تلتزم الأخلاق والقيم، وتسعى لتحقيقها وتكميلها في كل ظروفها وأحوالها، ولا سيما في أوقات الحروب التي تختبر فيها حقيقة هذه المبادئ، وتزول الأقنعة المزيفة التي تتجمل بها بعض الأمم في أوقات الرخاء والسلم، وهذه من أهم جوانب التفوق الحضاري للإسلام على ما سواه من الشرائع والنظم الدينية والوضعية، فالأديان السماوية التي عبثت بها أيدي البشر تأمر في نصوصها صراحة بقتل الأبرياء ومن لا ذنب لهم، فضلا عن الإفساد في الأرض.

        وإن المتأمل في الحروب العالمية يجد أنها خلّفت قتلى بالملايين، فضلا عن حرق المدن والتعذيب واغتصاب النساء والأطفال، وسياسة الأرض المحروقة التي تقوم على إبادة كل مظاهر الحياة في المدن، وغابت الإنسانية والأخلاق تمامًا عن هذه الحروب، وبعد انتهائها حاول المنتصرون فيها وضع أسس أخلاقية؛ لمنع تكرار هذه المآسي والكوارث الناشئة عن هدم كل المعايير الأخلاقية في أثناء الحرب، وتغنّى الكثيرون في العالم بشعارات هذه المواثيق، وأنها أرقى ما وصلت إليه البشرية في تاريخها كله.

شعارات جوفاء

         ولكن لم تصمُد هذه الشعارات الجوفاء أمام اختبار الواقع والحقيقة، فثارت في ظل هذا النظام حروب كثيرة، انتُهكت فيها كل هذه المواثيق على يد من وضعوها وعظّموها، بل وفرضوا على العالم الضعيف احترامها، واستثنوا أنفسهم وحلفاءَهم من الالتزام بها، ويرجع ذلك إلى أن المرجعية الأخلاقية التي يحتكم إليها ساسة هذه النظم هي المصلحة والمنفعة، فإذا حصل التعارض تنكروا للأخلاق.

النظرة الإلحادية الدارونية

         ويرجع ذلك أيضًا للكبر الذي أُشرِبه هؤلاء؛ فجعلهم ينظرون لغيرهم من البشر على أنهم (أغيار) ليسوا بشرًا كاملين في نفس درجة الإنسانية التي وصلوا إليها، وعزز هذه النظرة انتشار نظريات الإلحاد والداروينية، التي جعلت العلاقة بين البشر قائمة على الصراع للبقاء، وجعلت هناك جنسًا أرقى وجنسًا أدنى، وأن الصراع بينهم حتمي، والبقاء للأقوى؛ ولذلك في الوقت الذي كان يتغنى هؤلاء بشعارات الحقوق والحريات كان يمارس المحتل أبشعَ أنواع المظالم، وينتهك جميع الحقوق للشعوب الضعيفة المقهورة.

عظمة مبادئ الإسلام وأحكامه

          لذلك كان لابد من بيان جانب يظهر به مدى عظمة الإسلام فيما شرعه وسنَّه من أحكام ومبادئ تنظم أحكام الحرب والقتال في جميع مراحله، وتبين كذلك المبادئ العامة التي يتعامل من خلالها المسلمون في هذا الباب.
  • أولا: الأمر بالعدل مع جميع الخلق
قال الله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل: 90)، وهذه آية جامعة، قال فيها ابن مسعود -رضي الله عنه-: «أَجْمَعَ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ»، والأمر فيها بالعدل عام مع الجميع، وقال -تعالى-: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا} (المائدة: 2)، قال ابن كثير -رحمه الله-: «أي: لا يحملنكم بُغض قوم قد كانوا صدّوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام -وذلك عام الحديبية- على أن تعتدوا حكم الله فيهم، فتقتصوا منهم ظلمًا وعدوانًا، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد». وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: 8)، استدلّ القرطبي بهذه الآية على تحريم التمثيل بجثث الكفار في الحروب، حتى وإن فعلوا هم ذلك، فقال: «ودلت الآية أيضًا على أنّ كفر الكافر لا يمنع من العدل عليه، وأن يُقْتَصَر بهم على المُسْتَحَقّ من القتال والاسترقاق، وأنّ المُثْلَةَ بهم غيرُ جائزة وإنْ قتلوا نساءنا وأطفالنا وغمُّونا بذلك، فليس لنا أن نقتلهم بمثلة قصدًا لإيصال الغمّ والحزن إليهم».

قيمة العدل والإنصاف في الحروب

        وقد برزت قيمة العدل والإنصاف في الحروب في بواكير العمل العسكري بعد الإذن بالقتال، وهي سرية عبد الله بن جحش -رضي الله عنه- حينما تعقبوا قافلة لقريش، وقتلوا منها عمرو بن الحضرمي وأسروا اثنين، وفرَّ الرابع إلى قريش، فشنع المشركون عليهم بالقتل في الشهر الحرام، وشق ذلك على المسلمين، فنزل قوله -تعالى-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} (البقرة: 217). فأجابت الآية ببيان حكم ما وقع من المسلمين، وأنه إثم كبير، ولا يجوز، وردّت على المشركين تشنيعهم على المسلمين، وأن ما هم عليه أعظم بكثير مما وقع من المسلمين، وأن انتهاكهم للشهر الحرام والبلد الحرام أعظم، وأعظم من كل ذلك فتنتهم المسلمين عن دينهم، وإجبارهم على الشرك. والشاهد أن القرآن لم يجعل القتال والحرب مسوّغًا لمخالفة الشريعة وانتهاك أحكامها، حتى ولو كان قد وقع من المشركين ذلك، وفي هذا أبلغ الدلالة على مدى التزام الإسلام بالأخلاق في حال الحرب.
  • ثانيا: أهداف الحرب في الإسلام
أهداف الحرب في الإسلام أهداف أخلاقية، فالجهاد في الإسلام بنوعيه -جهاد الدفع والطلب- له أهداف منها: (1) الدفاع عن المستضعفين قال -تعالى-: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} (النساء: 75)، وقال -تعالى-: {‌أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 39، 40). (2)  منع الفتنة في الدين قال -تعالى-: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} (البقرة: 193)، والفتنة هنا بإجماع المفسرين: الشرك، وليس المقصود بذلك إفناء جميع الكفار؛ فإن هذا بالقطع ليس الغاية التي ينتهي عندها القتال، وهو غير مقدور وغير مأمور، ولم يفعله النبي -صلى الله عليه وسلم -ولا المسلمون في تاريخهم، وإنما المقصود: ألا يكون هناك كفر ظاهر على بقعة، فيفتن المشركون المتسلطون المسلمين عن دينهم، كما قال -تعالى- {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} (البروج: 10). (3)  حماية الدعوة إلى الله -تعالى فلم يشرع الجهاد لإكراه الناس على الدخول في الإسلام؛ فإن ذلك منفي في كتاب الله -تعالى-: {‌لَا ‌إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256)، ومن المعلوم أن المسلمين لم يكرهوا أهل البلدان المفتوحة على ترك دينهم، بل أقروهم على ما هم عليه، ولكن كانت وظيفة الجهاد إزاحة أئمة الكفر الذين يفرضونه على الناس، ويحولون بينهم وبين نور الإسلام، كما قال ربعي بن عامر في مقولته الشهيرة لرستم: «‌الله ‌ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله». (4)  الحفاظ على وحدة المسلمين ولذلك شرع الإسلام قتال البغاة والخوارج، وهذا النوع من القتال وإن كان بين المسلمين، إلا أنه أيضا شرع لمنع الفتنة ودرءًا لفساد أعظم، ومع ذلك ضيّق الشرع فيه، فجعله آخر الدواء، بعد استنفاذ الطرائق الأخرى لرد عدوانهم، كالنظر في مطالبهم المشروعة، وإزالة شبهاتهم، ومحاورتهم ومناظرتهم، وغير ذلك من الطرائق السلمية، ثم عند الاضطرار لمحاربتهم يقتصر فقط على مقدار ما تندفع به الضرورة، فلا تنتهك جميع حرماتهم، فلا يتبع مدبرهم، ولا يجهز على جريحهم، وغير ذلك مما هو مذكور في أبواب قتال البغاة في كتب الفقه؛ لأن المقصود دفع العدوان ومنع الفتنة بالأسهل فالأسهل. فهذه أهداف القتال في الإسلام، وكلها أهداف أخلاقية، ليس منها التسلط على رقاب الخلق، ولا إعلاء جنس معين، ولا تسخير الشعوب لخدمته، أو السيطرة على ثرواتهم وخيراتهم.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك