رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: اللجنة العلمية في الفرقان 28 نوفمبر، 2023 0 تعليق

أحداث غزة وسنن الله الكونية

 

  • لابد أن نكون على يقين جازم واعتقاد راسخ أن ما يجري اليوم من كيد وقتل وهجوم شرس من المحتل إنما هو بعلم الله تعالى وإرادته وحكمته سبحانه وتعالى
  • أكثـر ما يؤتى المسلمون أفرادًا وجماعات إنما هو من قِبَل أنفسهم لذا وجب في مثل هذه الأحداث محاسبة النفوس ومراجعة المواقف والبعد عن الذنوب والمعاصي والفرقة والأهواء
  • المدافعة بين الحق والباطل تكون لبيان الحق وإزالة الشُّبَه ورفع اللبس عن الحق وأهله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر والثبات على الابتلاء
  • قد يحيك في قلوب بعض المسلمين شيء وهم يرون هؤلاء المعتدين يبغون ويظلمون، ومع ذلك هم متروكون لم يأخذهم الله بعذاب من عنده! وقد يتسرب اليأس والإحباط إلى بعض النفوس

إن مما يحزِن قلبَ كل مسلم صادق، ويشغل ذهنه وتفكيره في هذه الأوقات، ما يلاقيه أهلنا وإخواننا المسلمون في فلسطين وبالتحديد في غزة الصابرة المحاصرة، ولقد سعى الدعاة الصادقون والكثير من المؤسسات الخيرية إلى نصرة إخواننا هناك والتضامن معهم، والدعاء لهم، والوقوف معهم في محنتهم، كلٌّ بحسبه وقدرته، وليس هذا مستغرباً على أهل التوحيد والإسلام الذين وصفهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.

ومن أهم الأمور التي ينبغي أن ننتبه إليها في خضم هذه الأحداث وأمثالها، ما يلي:

الأمر الأول: كل ما يجرى بعلم الله -تعالى

      اليقين الجازم والاعتقاد الراسخ بأن ما يجري اليوم من كيد وقتل وهجوم شرس من المحتل، فإنما هو بعلم الله -تعالى- وإرادته، قال الله -عز وجل-: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (الأنعام:12)، وقال -سبحانه-: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (البقرة:253). ومشيئته -سبحانه- ليست مجردة عن حكمته، بل له -سبحانه- الحِكَم البالغة في خَلْقه وأمره، والعارفون لربهم -عز وجل- يعلمون ذلك، ولذا فهم يحسنون الظن بربهم، ويوقنون أن عاقبة هذه الأحداث التي يقــدرها الله -عز وجل- هي خير ومصلحة ولطف بالموحدين، إن شاء الله -تعالى-، ومع أن المعركة اليوم شديدة وموجعة وكريهة، إلا أننا نلمس لطف الله -عز وجل- وحكمته ورحمته في أعطافها. يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى-: وأسماؤه الحسنى تقتضي آثارها، وتستلزمها استلزام المقتضي الموجب لموجبه ومقتضاه، فلابد من ظهور آثارها في الوجود؛ فإن من أسمائه: الخلَّاق المقتضي لوجود الخلق، ومن أسمائه الرزاق المقتضي لوجود الرزق والمرزوق، وكذلك التواب والحكيم والعفوُّ، وكذلك الرحمن الرحيم، وكذلك الحَكَم العدْل، إلى سائر الأسماء، ومنها: الحكيم المستلزم لظهور حكمته في الوجودِ، والوجودُ متضمن لخلقه وأمره، {أَلا لَهُ الْـخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (الأعراف:54)؛ فخلقه وأمره صدرا عن حكمته وعلمه، وحكمته وعلمه اقتضيا ظهور خلقه وأمره، فمصدر الخلق والأمر عن هذين الاسمـين المتضمنين لهاتين الصفتين، ولهذا يقرن -سبحانه- بينهما عند ذكر إنزال كتابه، وعند ذكر ملكه وربوبيته؛ إذ هما مصدر الخلق والأمر.

الأمر الثاني: معرفة سنن الله -سبحانه وتعالى

       إن من حِكَم الله -عز وجل- البالغة في هذه الأحداث أن يعرِّفنا على سننه -سبحانه- التي لا تتبدل ولا تتحول، وبمعرفة هذه السنن الإلهية يتضح الطريق المستقيم ويهتدي المسلم فيه، ويوفق إلى الموقف الحق والمنهج الصائب. يقول الله - عز وجل آمراً لنا بالنظر في سننه المطَّردة-: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْـمُكَذِّبِينَ} (آل عمران:137) وقال -سبحانه-: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: ٣٤)، ومن هذه السنن التي ينبهنا الله -عز وجل إليها في مثل هذه الأحداث ما يلي-:
  • أولاً: سُنة المدافعة
إن إيماننا بأن كل ما يحدث في هذا الكون من أحداث إنما هو بعلم الله -عز وجل- وإرادته وحكمته، لا يعني الاستسلام للذل وترك المدافعة؛ لأن الله -عز وجل- الذي أراد هذه الأحداث كونًا وقدرًا، أراد منا مدافعتها دينًا وشرعًا، وهذه هي سُنَّة المدافعة، قال الله -عز وجل-: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} (محمد: ٤). ويقول الله -عز وجل-: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج:40). وقال الله - عز وجل - في الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم: «… وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقَتَهم عربَهم وعجمَهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك»، ففي هاتين الآيتين والحديث القدسي أبلغ دليل على حتمية الصراع بين الحق والباطل في صورة المدافعة بين المسلمـين والكفـار، ومن طمع في الإصلاح ودرء الفساد ونشر الخير بدون هذه السنَّة، فإنما هو جاهل بسنن الله -تعالى- ومتنكِّب لطريق الأنبياء وأتباعهم.

صور تطبيق سنة المدافعة بين الحق والباطل

      والمدافعة بين الحق والباطل تأخذ صورًا متعددة: فبيان الحق وإزالة الشُّبَه ورفع اللبس عن الحق وأهله مدافعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مدافعة، وبيان سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين مدافعة، والصبر والثبات على الابتلاء، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: «والجهاد منه ما هو باليد، ومنه ما هو بالقلب والدعوة والحجة والبيان والرأي والتدبير والصناعة، فيجب بغـــاية ما يمكن»، وما يحصل الآن في غزة المحاصرة عدوان يجب على المسلمين مدافعته بكل ممكن، وكلٌّ بحسبه. فعلى علماء الأمة واجب المدافعة بتوجيههم والتضامن معهم، وحث الأمة على دعمهم والوقوف معهم، وعلى الأغنياء في هذه الأمة واجب المدافعة بدعمهم بالمال الذي يخفف من معاناتهم، وعلى أصحاب الأقلام والمنابر الإعلامية التعريف بقضيتهم، وفضح أعدائهم، وإظهار صور الظلم والعدوان التي يواجهونها، وعلى المسلمين عامة واجب المدافعة، بالاهتمام بشؤونهم، والحزن لمصابهم، والدعاء لهم، ودعمهم.

التفاعل مع سنة التغيير

       يقول الله -عز وجل-: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: ١١)، ويقول -سبحانه- عن أحداث غزوة أحد المؤلمة للمسلمين: {أَوَ لَـمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران:165)، ففي هاتين الآيتين تنبيه من الله -عز وجل- لعباده المؤمنين إلى أن يتفقدوا أنفسهم وواقعهم ومواقفهم، ويبدؤوا بالتغيير من الداخل إلـى ما يحبـه الله ويرضـاه؛ لأن أكثـر ما يؤتى المسلمون أفراداً وجماعات إنما هو من قِبَل أنفسهم؛ لذا وجب -في مثل هذه الأحداث- محاسبة النفوس، ومراجعة المواقف، والبعد عن كل ما يسبب الهزائم، من الذنوب والمعاصي والفرقة والأهواء، فمن هنا يبدأ التغيير ويبدأ الإصلاح.
  • ثانيًا: سُنة الاستدراج
قال الله -تعالى-: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}(آل عمران:178). وقال -تعالى-: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (الأعراف: 182-183). وقال -سبحانه-: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْـخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} (المؤمنون: ٥٥ -56). وهذه السُّنَّة الإلهية تعمل عملها في هذه الأوقات، وبخاصة أولئك الذين بلغ بهم الكِبْر والغطرسة والظلم والجبروت مبلغاً عظيماً، ونراهم يزدادون يوماً بعد يوم في الظلم والبطش والكبرياء، ومع ذلك نراهم ممكَّنين ولهم الغلبة الظاهرة، وقد يحيك في قلوب بعض المسلمين شيء وهم يرون هؤلاء الكفرة يبغون ويظلمون، ومع ذلك هم متروكون لم يأخذهم الله بعذاب من عنده! وقد يتسرب اليأس والإحباط إلى بعض النفوس، ولكن المسلم الذي يفقه سنة الله - عز وجل - ويتأملها، ويرى آثارها وعملها في الأمم السابقة، لا يحيك في نفسه شيء من هذا، قال -تعالى-: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَـمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِـمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} (الكهف:59).  

سنة الابتلاء وسنة الإملاء

         إن الله -عز وجل- حكيم عليم، وما كان -سبحانه- ليحابي أحدًا في سننه، ولله -عز وجل- الحكمة في وضع السُّنَّتين: سُنة الابتلاء وسنة الإملاء، في آيتين متتاليتين في سورة آل عمران، قال -تعالى-: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (آل عمران:178)، ثم قال بعدها: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْـمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْـخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَـكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.(آل عمران:179)، من الحكمة أن يعلِمنا الله -عز وجل- أن هاتين السُّنَّتين متلازمتان ومتزامنتان، وأن إحداهما تهيئ للأخرى، وفي الوقوف مع سُنة الإملاء فوائد، منها: عدم الخوف والاغترار بقوة العدو، ذلك لأن ناصيته بيد الله - عز وجل - والله -سبحانه- يملي له ليُمْحَـق لا ليدوم ظُلْمُه، ولو شاء الله - عز وجل - لقصمه، ولكن الله -عز وجل- له الحكمة في تأجيل هذا القصم، وهذا الإيمان يُذْهِب اليأسَ عن النفوس، ويزيل الإحباط والخوف الذي ينشأ من تسلط الأعداء وقوتهم.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك