رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ سعيد بن عماش السعيدي 17 أغسطس، 2010 0 تعليق

آبـاء وأبــناء في القــــــرآن الكـــريـــم

 


نوح - عليه السلام - وابنه

إن قصة نوح - عليه السلام - فيها الدروس والعبر من جميع نواحي الحياة، فيها الحكمة وفيها الصبر وحسن العرض للدعوة والشفقة، والالتجاء لله تعالى، بل كلها عظات، وقد حظي أقرب الناس إليه بعناية خاصة وهو ابنه {يا بني اركب معنا} فنلاحظ هذا التلطف مع الولد العاق يتدفق من قلب العبد الشكور، عليه السلام.

وقد وردت قصته - عليه السلام - في العديد من السور، وله سورة سميت باسمه في القرآن الكريم، ويعد نوح - عليه السلام - أول الرسل - عليهم السلام - وأول أولي العزم منهم، ويعد أطول الأنبياء عمراً في مسيرة الدعوة إلى الله، وقد ذكر ابن جرير الطبري - رحمه الله تعالى - أن مولده كان بعد وفاة آدم - عليه السلام -  بمائة وست وعشرين سنة، وقد جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلها على الإسلام، وقد بعثه الله تعالى رحمة للعباد، لما انحرف الناس عن الفطرة السوية وعبدوا الأصنام.

هذا وقد جاء عن جابر في حديث الشفاعة الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - تقرير أن نوحا هو أول المرسلين؛ فقد ورد في الحديث «أن الناس يأتون آدم - عليه السلام - ثم يأتون نوحا، فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وسماك الله عبدا شكورا، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما بلغنا؟! ألا تشفع لنا إلى ربك - عز وجل؟! فيقول: ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، نفسي نفسي...» وذكر تمام الحديث بطوله كما رواه البخاري في قصة نوح - عليه السلام.

والآن مع ما ذكره الله تعالى عن ذلك العبد الشكور مخلدا ذكره في الكتاب العزيز:

قال تعالى: {وهي تجري بهم في موج كالجبال} (هود: 42).

وصف للحالة مرعب مخيف، السفينة تجري، أين تجري؟ يا إلهي! تجري في الأمواج التي تتقاذفها وقد وصفت لعظمتها بأنها كالجبال الشامخات.

جاء في «أضواء البيان»: ذكر الله تعالى في هذه الآية أن السفينة تجري بنوح ومن معه في ماء عظيم أمواجه كالجبال، وبين جريانها هذا في ذلك الماء الهائل في مواضع أخرى؛ قال تعالى: {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية} (الحاقة: 11).

وقوله تعالى: {ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر} (القمر: 11 - 12).

إن الهول هنا هولان: هول في الطبيعة الصامتة التي تفجرت بعنف، وهول في النفس البشرية وقد التقيا.

وفي هذه اللحظة الرهيبة الحاسمة يبصر نوح فإذا أحد أبنائه يصارع الأمواج؛ فيثور في كيانه حنان الأبوة الملهوفة.. ويروح يهتف بالولد الشارد؛ قال تعالى: {ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين} (هود: 42).

جاء في «فتح القدير» (2/654): هو كنعان، قيل: وكان كافرا، واستبعد كون نوح ينادي من كان كافرا مع قوله تعالى: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا} (نوح: 26)، وأجيب بأنه كان منافقا فظن نوح أنه مؤمن، وقيل: حملته شفقة الأبوة على ذلك. ولكن البنوة العاقة لا تهتم بصياح الأبوة المجروحة: {قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء} (هود: 43).

ثم هاهي ذي الأبوة المدركة لحقيقة الهول وحقيقة الأمر وأن العذاب فريد من نوعه، ترسل النداء الأخير: {قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} (هود: 43) وفي لحظة يتغير المشهد، فهاهو ذا الموج يبتلع كل شيء: {وحال بينهما الموج فكان من المغرقين} (هود: 43)، سكن الهول واختفى كل شيء واستوت على الجودي، مرة أخرى تستيقظ في نفس نوح آلام الوالد المفجوع، وعظيم ظنه بربه: {ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي} (هود: 45) أطلقها يستنجز ربه وعده في نجاة أهله، وهذا منهج الرسل - عليهم السلام - في الالتجاء إلى الله كما فعل محمد [ يوم بدر، وأيوب، وزكريا، ويونس، عليهم السلام.

قال الله تعالى: {وكان في معزل يا بني اركب معنا} (هود: 42).

قال القرطبي - رحمه الله تعالى-: {في معزل} أي: من دين أبيه، وقيل: من السفينة، وقيل: إن نوحا لم يعلم إن كان ابنه كافرا وأنه ظن أنه مؤمن؛ ولذلك قال له: {ولا تكن مع الكافرين} (هود: 42) ا. هـ.

قلت: كذلك قول نوح - عليه السلام -: {إن ابني من أهلي}؛ فلو علم بكفره لم يقر به لنفسه {من أهلي}؛ لأن رباط الدين أوثق وأعظم، وهذا ليس خفيا على نوح، وفيه سر آخر أن السرائر لا يعلمها إلا رب العالمين؛ لا نبي مرسل ولا ملك مقرب.

قوله تعالى: {قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء} (هود: 43).

قال أهل التفسير: أي أرجع وأنضم إلى جبل يمنعني من الماء فلا أغرق، واعتقد أن الطوفان لن يبلغ إلى رؤوس الجبال، فقال له أبوه نوح - عليه السلام -: إن هذا العذاب شديد فريد في نوعه؛ قال تعالى: {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} (هود: 43).

جاء في «بدائع التفسير» 2/430): على أصح الوجوه في الآية فإنه تعالى لما ذكر العاصم استدعى معصوما مفهوما من السياق فكأنه قيل: لا معصوم اليوم من أمره إلا من رحمه؛ فإنه لما قال: {لا عاصم} بقي الذهن طالبا للمعصوم؛ فكأنه قيل: فمن الذي يُعْصَم؟ فأجيب بأنه لا يعصم إلا من رحمه الله تعالى، ودل هذا اللفظ باختصاره وجلالته وفصاحته على نفي كل عاصم سواه وعلى نفي كل معصوم سوى من رحمه الله تعالى؛ فدل الاستثناء على أمرين: على المعصوم من هو، وعلى العاصم، وهو ذو الرحمة سبحانه وتعالى، وهذا من أبلغ الكلام وأفصحه وأوجزه، ولا يلتفت إلى ما قيل في الآية بعد ذلك. ا هـ.

قوله تعالى: {وحال بينهما الموج فكان من المغرقين} (هود: 43).

وفي لحظة خاطفة يتغير المشهد، فهاهو ذا الموج الغامر يبتلع كل شيء من غير رحمة، ويقطع الرجاء وتختفي المعالم وتلتهب اللوعة والجزع فتحل في قلب الوالد الملهوف، وإذا به ينادي ربه: {ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي} (هود: 45).

قالها يستنجز ربه وعده في نجاة أهله، أي الذين وعدت أن تنجيهم من الغرق، وسأل نوح ربه نجاة ولده لقوله تعالى: {وأهلك إلا من سبق عليه القول} (هود: 40)، وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي ومن معي من المؤمنين وإن وعدك الحق الذي لا خلف فيه أبدا، فأجابه تعالى بقول فصل لا مجاملة ولا مدارة فيه، بقوله: {إنه ليس من أهلك} (هود: 46)، أي: الذين وعدتك بإنجائهم؛ لأنه على غير دينك وعلى خلاف منهجك {إنه عمل غير صالح} (هود: 46).

وجاء الرد بالحقيقة الكبرى، الأهل عند الله وفي دينه ليسوا قرابة الدم، وإنما هم قرابة العقيدة والتوحيد وهي العروة الوثقى التي يتعلق بها الناجون، وهذا الابن لم يكن مؤمنا، في علم الله المطلق؛ فليس إذن من أهلك يا نوح.

سمع نوح - عليه السلام - هذا الرد في قوته وتوكيده وهو يشبه العتب على نوح - عليه السلام -: {قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح} (هود: 46). وقد روي عن ابن عباس وعروة وعكرمة وغيرهم: {إنه عَمِلَ غَيْرَ صالحٍ} (هود: 46)، أي: ابنك عمل عملا غير صالح، فحذف المضاف كقول الشاعر:

ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت

                   فإنما هي إقبال وإدبار

أي: ذات إقبال وإدبار.

قوله تعالى: {فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين} (هود: 46)، فوعد الله قد تحقق، ونجا أهلك الذين هم أهلك على التحقيق، أهل الدين والعقيدة.

{إني أعظك} أي: أنهاك {أن تكون من الجاهلين} فتسألني ما ليس لك به علم، فقال العبد الشكور نوح - عليه السلام -: {رب} أي: يا رب {إني أعوذ بك} أي: أستجير وأتحصن بك أن أسألك بعد الآن {ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} أي الذين ظلموا أنفسهم، فأدركت رحمة الله نوحا، تطمئن قلبه، وتباركه هو والصالح من نسله؛ فأما الآخرون فيمسهم عذاب أليم.

وسمع النداء المسلّي الشافي بعد كل تلك الكروب التي صاحبت ذلك الحدث العظيم «الطوفان»؛ حيث كان ذلك مفزعا له في جنانه وأركانه فإذا به يسمع: {قيل يا نوح اهبط بسلام منا...} (هود: 43).

وكانت خاتمة المطاف: البشرى من الله لأوليائه وعبيده، والتهديد والعذاب الموعود للمخالفين، ثم يسدل الستار على هذه القصة العظيمة التي جاءت فصولها بصدق في كتاب ربنا دروسا للحاضرين والغائبين، والحمد لله رب العالمين.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك