للكاتبفضيله الشيخ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان
زيارات-1461,1 يونيو، 2010
تحويل الرشوة إلى مسميات أخرى كبدل الأتعاب أو المكافأة أو الإكرامية أو غير ذلك من المسميات.. لا يغير من الحكم
بذل مال لتحصيل منحة أرض أو نقل من مكان إلى آخر أو هدايا العمال كل ذلك داخل في الرشوة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وبعد: فإن الرشوة داء خطير ما أن يفشو في مجتمع حتى يشيع فيه الفساد والظلم وقلب موازين الحق، وحقيقة الرشوة: بذل المال للتوصل إلى باطل، إما لإبطال حق أو لإحقاق باطل، وهي من خصال اليهود؛ قال الله تعالى في ذم اليهود: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (المائدة: 42)، قال الحافظ بن كثير – رحمه الله – في (تفسيره): «السحت: الحرام، وهو الرشوة، كما فسره بذلك عبدالله بن مسعود وغير واحد». اهـ.
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي» أخرجه الترمذي وابن ماجة والحاكم بسند صحيح. وفي لفظ: «لعن الله الراشي والمرتشي»، واللعن هو: الطرد والإبعاد من رحمة الله، ولا تكون لعنة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إلا على أمر عظيم ومنكر كبير، وهذا يقتضي أن بذل الرشوة وأخذها من كبائر الذنوب، وقد عدَّها صاحب كتاب (الزواجر عن اقتراف الكبائر) من الكبائر، وذكر أن الراشي بدفعه للرشوة يصبح فاسقاً وكذلك المرتشي، قال: «ولا فرق في ذلك بين قليل المال وكثيره».
وإنما شدد الشارع في الرشوة ولعن آخذها وباذلها؛ لأنها من أكبر الفساد في الأرض، فبها تؤكل أموال الناس بالباطل، وبها يغيَّر حكم الله، وبها تضيع الحقوق، وبها يثبت ما هو باطل، ويُنفَي ما هو حق، فالرشوة فساد للمجتمع، وتضييع للأمانة، وظلم للنفس، يظلم الراشي نفسه ببذل المال لنيل الباطل، ويظلم المرتشي نفسه بالمحاباة، وعن طريقها تهدر الحقوق، يأكل بها الراشي والمرتشي ما ليس من حقه، ويكتسب حراماً لا ينفعه، بل يضره، ويسحت ماله إما بذهابه حساً أو بذهاب بركته.
إن شيوع الرشوة في أي مجتمع شيوع للفساد والظلم؛ لأنها تتسبب في منع صاحب الحق من حقه ودفعه إلى غير مستحقه، تتسبب في الظلم والعدوان، وتقدِّم من يستحق التأخير، وتؤخِّر من يستحق التقديم، فما خالطت الرشوة عملاً إلا أفسدته، ولا قلباً إلا أظلمته، وما فشت الرشوة في أمة إلا وحلَّ فيها الغش محل النصح، والخيانة محل الأمانة، والخوف محل الأمن، والظلم محل العدل، والرشوة مهدرة للحقوق، معطلة للمصالح، مجرئة للظَّلمة والمفسدين، والرشوة تقدم السفيه الخامل، وتبعد المجد العامل، تجعل الحق باطلاً والباطل حقاً، وكم ضيَّعت الرشوة من حقوق! وأهدرت من كرامة، ورفعت من لئيم، وأهانت من كريم! وكم من تقي أهين وضاع حقه عند موظف لئيم لم يدفع له رشوة! وكم من فاسق قُدم على غيره وأعطي مطلبه وإن كان باطلاً؛ لأنه دفع الرشوة!
وبالجملة فالرشوة فساد للمجتمع، وقلب لموازين الحق فيه، وإحلالها بموازين الباطل والظلم والعدوان.
ولنلق نظرة إلى المجتمعات التي فشت فيها الرشاوى.. وإلى حالة التردي والسوء الذي وصلت إليه! أصبح الإنسان في تلك المجتمعات لا يستطيع أن ينجز معاملة له إلا بالرشوة، بل أصبح المجرمون في تلك المجتمعات في مأمن من العقوبة؛ لأنهم إن قبض عليهم وهم متلبسون بجريمتهم فيسخرجون من السجن عن طريق رشوة القائمين عليه، وإن قدر أن رفع أمرهم للحكم عليهم فلن يحكم عليهم بكبير عقوبة؛ بسبب دفعهم الرشوة لمن يحكم عليهم!
وبالجملة فإن الرشوة إذا فشت في مجتمع أوصلته إلى الحضيض وأفسدته.
والرشوة تكون في أمور كثيرة ومجالات متعددة، وأسوأ ما تكون فيه القضاء والحكم بين الناس، فيُقضىَ من أجلها لمن لا يستحق أو يمنع من يستحق، وعن بريدة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار» أخرجه أبو داود وابن ماجة بسند صحيح، وتكون الرشوة في التحقيقات الجنائية والتحقيق في القضايا العامة والخاصة؛ فيتساهل المحققون في التحقيق من أجل الرشوة، وتكون في تنفيذ المشاريع، فعندما يطرح مشروع عمل للمناقصة فيبذل أحد المتقدمين رشوة، يرسو عليه المشروع مع أن غيره أنصح وأتقن عملاً.. ومن صور الرشوة ما يبذل لمراقبي البلدية ورجال المرور والجوازات لتخطي بعض الأنظمة أو يبذل لبعض الموظفين للحصول على رخصة أو إنجاز معاملة أو نحو ذلك.
ومن صور الرشوة: ما يبذل من مال لأجل تحصيل وظيفة فيطلب المرتشي مباشرة أو عن طريق وسيط مبلغاً مالياً كبيراً لتوظيف هذا الشخص، وربما سماه بدل أتعاب، وهذا من قبيل تسمية الأمور بغير أسمائها؛ فإن بدل الأتعاب إنما يكون مبلغاً يسيراً يوازي في عرف الناس المجهود الذي بذل.
ومن صور الرشوة: بذل مال لتحصيل منحة أرض أو نقل من مكان إلى مكان، فكل ذلك داخل في الرشوة؛ لأن من يملك القرار في التوظيف أو النقل أو المنح استغل منصبه الوظيفي وتعاطى الرشوة، وربما دخلت الرشوة التعليم فينجح من أجلها من لا يستحق النجاح، وخاصة في بعض المدارس الأهلية؛ حيث يتساهل بعض المسؤولين في تلك المدارس في مراقبة الطلاب أثناء تأدية الاختبارات أو يعطوا الطلاب ملخصات مختصرة تكون الأسئلة منها نظير أخذهم الرشوة إما بصفة مباشرة أو غير مباشرة، أي إن التساهل لأجل المكافآت التي يتقاضونها.
ومما يدخل في معنى الرشوة: هدايا العمال، فعن أبي حميد الساعدي – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هدايا العمال غلول» أخرجه أحمد وغيره. وهو حديث صحيح بمجموع شواهده، وفي (الصحيحين) عن أبي حميد الساعدي – رضي الله عنه -: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على الصدقة، فلما قدم، قال: هذا لكم وهذا لي أهدي إلي، فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي؟! أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟! والذي نفس محمد بيده، لا ينال أحد منكم شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه: إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا بياض إبطيه فقال: اللهم هل بلغت ثلاثاً».
فإذا كان ما يأخذه العامل على الصدقة التي كلف من قبل الإمام بجبايتها غلولا؛ فكذلك أيضاً ما يأخذه الموظف من الناس مقابل وظيفته؛ فإن هذا من الغلول، سواء سمي ذلك هدية أم مكافأة أم إكرامية أم غير ذلك؛ لأن الموظف يجب عليه القيام بعمله في مقابل ما يتقاضاه من مرتب، فما يأخذه هذا الموظف من الناس فوق ذلك فهو غلول؛ لأن هذا الموظف لو جلس في بيت أبيه أو أمه لما أهدى إليه أحد شيئاً، وهذا الموظف إن كان ما يأخذه من الناس من المال من أجل أن يعطي صاحب الحق حقه فهذا واجب عليه بحكم عمله بدون مقابل، وإن كان لأجل أن يعطيه غير حقه أو يقدمه على غيره ممن هو أسبق منه، فهذا مال أخذه بغير حق وفي مقابله ظلم؛ فهو أشد تحريماً وأعظم إثماً، وكما أن هذا الموظف لا يجوز له أن يأخذ هذا المال فلا يجوز كذلك لأحد من الناس أن يدفع لموظف من أجل وظيفته.
وإن بعض الناس يتعاطى الرشوة ويسميها إما بدل أتعاب أو مكافأة أو إكرامية أو غير ذلك، وهذه التسميات لا تغير من الحكم شيئاً، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليكونن من أمتي أقوام يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها»، وقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم لنا قاعدة عظيمة في هذا الباب، وهي قوله: «أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟!»، فإذا أشكل عليك أمر الهدية أو الإكرامية فطبق عليها هذه القاعدة: لو أنك كنت في بيتك أو بيت أبيك وأمك، أي إنك لست في هذا المنصب أو لست موظفاً في هذه الدائرة، هل سيهدي لك هذا المهدي؟! فإذا كان الجواب بالنفي وأن هذا المهدي إنما أهدى لك لأجل موقعك الوظيفي؛ فيكون ذلك داخلاً في الرشوة.
ورخَّص بعض العلماء بذل الرشوة دون أخذها في حالة واحدة، وهي إذا ما وقع على الإنسان ظلم ولم يستطع دفعه إلا ببذل الرشوة؛ فإنه يجوز بذل الرشوة في هذه الحال والإثم على الآخذ، وهكذا إذا كان للإنسان حق ولم يستطع الوصول إليه إلا ببذل الرشوة جاز بذلها والإثم على الآخذ، وقد اختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – وابن القيم وجمع من المحققين من أهل العلم رحمهم الله تعالى، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «هذا هو المنقول عن السلف والأئمة الأكابر».
ولكن عند تقرير هذا القول لا بد من التحقق من وقوع الظلم فعلاً، وعدم إمكانية دفعه بأي طريق آخر سوى بذل الرشوة، وهكذا لو كان للإنسان حق وليس له طريق للوصول إليه بأي طريق آخر سوى بذل الرشوة؛ فيجوز البذل دون الأخذ، ولاحظ أن صورة الجواز نطاقها ضيق جداً، وبعض العامة يستغل هذا القول ويتوسع في بذل الرشوة اعتماداً على هذا القول؛ فيجيز لنفسه بذل الرشوة لأجل الحصول على وظيفة أو النقل من مكان إلى آخر، وهذه الصور لا تنطبق على هذا القول؛ لأنه ليس هناك ظلم واقع ولا حق مكتسب له حرم منه.
أسأل الله تعالى أن يغنينا بحلاله عن حرامه، وبفضله عمن سواه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.