رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
مقالات
Responsive image
20 ديسمبر، 2022
3 تعليق

بيت المقدس نموذج (3) تسامح الإسلام مع النصارى

                                                           

ما زال حديثنا مستمرا عن تسامح الإسلام مع النصارى في بيت المقدس؛ حيث ذكرنا أنَّ التاريخ سطر مواقف خالدة في هذا الجانب، ومن هذه الأمور المشرقة من تسامح الإسلام مع غير المسلمين، أنه لم يلزمهم دفع الزكاة، ولم يفرض عليهم الجهاد مع المسلمين، كما سمح الإسلام لغير المسلمين بإقامة حياتهم الاجتماعية (الأحوال الشخصية) على تشريعاتهم الخاصة كالزواج والطلاق ونحو ذلك.

     يقول (غوستاف لوبون) -في كتابه (حضارة العرب)-: «كان يمكن أن تُعمي فتوح العرب الأولى أبصارهم، وأن يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادةً، ويسيئوا معاملة المغلوبين، ويكرهوهم على اعتناق دينهم الذي كانوا يرغبون في نشره في العالم، ولكن العرب اجتنبوا ذلك، فقد أدرك الخلفاء السابقون الذين كان عندهم من العبقرية السياسية ما ندر وجوده في دعاة الديانات الجديدة، أن النظم والأديان ليست مما يفرضُ قسراً، فعاملوا كما رأينا أهل سوريا ومصر وإسبانيا وكل قطر استولوا عليه بلطف عظيم، تاركين لهم قوانينهم ومعتقداتهم، غير فارضين عليهم سوى جزية زهيدة في الغالب إذا ما قيست بما كانوا يدفعونه سابقاً، في مقابل حفظ الأمن بينهم؛ فالحقّ أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا ديناً مثل دينهم».

موقف شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله

     ومن الأمور المشرقة لحماية غير المسلمين موقف شيخ الإسلام «ابن تيمية» -رحمه الله- حينما تغلب التتار على الشام، فسمح القائد التتري للشيخ بإطلاق أسرى المسلمين، وأبي أن يسمح له بإطلاق أهل الذمة، فما كان من شيخ الإسلام إلا أن قال: لا نرضى إلا بإطلاق سراح جميع الأسارى من اليهود والنصارى؛ فهم أهل ذمتنا، ولا ندع أسيراً لا من أهل الذمة ولا من أهل الملة، فلما رأى إصراره وتشدده أطلقهم له.

سرعة انتشار الإسلام

     بل عزا الدكتور غوستاف لوبون سرعة انتشار الإسلام بين الشعوب الأخرى إلى هذه المعاملة الحسنة من قِبَلِ المسلمين لغيرهم، فقال: «ساعد وضوح الإسلام البالغ، وما أمر به من العدل والإحسان، كل المساعدة على انتشاره في العالم، ونفسر بهذه المزايا سبب اعتناق كثير من الشعوب النصرانية للإسلام، كالمصريين الذين كانوا نصارى أيام حكم قياصرة القسطنطينية، فأصبحوا مسلمين حين عرفوا أصول الإسلام، كما نفسر السبب في عدم تنصر أية أمة بعد أن رضيت بالإسلام ديناً، سواء أكانت هذه الأمة غالبة أم مغلوبة».

قدر عظيم من التسامح

     وتشير مصادر التاريخ الأيوبي إلى أن القدس في عصر صلاح الدين قد شهدت قدراً عظيماً من التسامح، أتاح لساكنيها من غير المسلمين الفرصة لممارسة أنشطتهم اليومية بحرية مطلقة، مما أتاح الفرصة لصلاح الدين لكي يعنى بالخدمات العامة.

     وعموماً فقد عاش أهل الذمة في القدس كما في غيرها من الأمصار الإسلاميـة في مناخ اتّسم بالتسامح والحرية وفق تعاليم الشريعة الإسلامية، حتى إنّ الرحالة اليهودي إسحاق بن يوسـف (1333) يعترف صراحة بأنّ اليهود في القدس يعيشون في طمأنينة وسعادة، وأرجع ذلك إلى عدل الحكومات الإسلامية في القدس.

أهل الذمة في بيت المقدس

     فأهل الذمة من سكان بيت المقدس لم ينغلقوا على أنفسهم ولم يعيشوا على حافة المجتمع خلال العصور الإسلامية المختلفة؛ حيث أتاحت لهم الدولة الإسلامية جوا من الحرية العلمية لم تتح لنظرائهم في أوربا، فبينما كان العمل بالطب في روما أو باريس أو لندن خلال العصور الوسطى يعدّ هرطقة تسوغ للكنيسة حق إراقة دم من يعمل بتلك المهن بحجة أنّ ذلك يدخل في أخص خصوصيات الرّبّ، وبموجب هذا الفهم العقيم قتل مئات من كبار العلماء في كل مجالات العالم، حيث أُعدموا حرقاً بعد أن اتهمتهم الكنيسة بالهرطقة. وهذا ما يوضح سبب وجود أطباء نصارى في القدس كانوا يقومون بممارسة مهنة الطب وبعضهم كان ينقطع لمعالجة أبناء طائفته.

أضف تعليقك

التعليقات

  • لا توجد تعليقات لهذه المادة

Ads