قال الله -تعالى-: {إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} (القلم:17-20)، ذكر الله -تعالى- قصة أصحاب الجنة - كما ذكر بعض السلف- الذين كان أبوهم قد خلف لهم هذه الجنة -وكانوا من أهل الكتاب-، وقد كان أبوهم يسير فيها سيرة حسنة؛ فكان ما استغله منها يرد فيها ما يحتاج إليها، ويدخر لعياله قوت سنتهم، ويتصدق بالفاضل، فلما مات ورثه بنوه، وقالوا: لقد كان أبونا أحمق؛ إذ كان يصرف من هذه شيئا للفقراء، ولو أنا منعناهم لتوفر ذلك علينا؛ فلما عزموا على ذلك عوقبوا بنقيض قصدهم، فأذهب الله ما بأيديهم بالكلية: رأس المال، والربح، والصدقة، فلم يبق لهم شيء.
قال ابن كثير: «هذا مثل ضربه الله -تعالى- لكفار قريش فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة، وأعطاهم من النعم الجسيمة، وهو بعثه محمدا - صلى الله عليه وسلم - إليهم؛ فقابلوه بالتكذيب والرد والمحاربة»، فمن المسائل الفقهية التي تستفاد من هذه الآية (أثر القصد في صحة العمل وجزائه).
مفهوم القصد
والقصد في اصطلاح الفقهاء: هو العزم المتجه نحو إنشاء فعل، أو الدوافع التي تجعل المكلف يتوجه إلى الفعل، وقد قرر الفقهاء أن أحكام تصرفات الإنسان تختلف باختلاف قصده؛ فبالنية يكون الفعل عبادة أو عادة، وبالنية يكون التصرف طاعة أو مباحا أو معصية، وبالنية يكون العقد صحيحا أو فاسدا، ونحو ذلك.
تأثير المقاصد في أحكام الأفعال
ومثال تأثير المقاصد في أحكام الأفعال، أن القتل يختلف حكمه باختلاف القصد؛ فيجب القصاص إن كان القتل عمدا، وفيه الدية المغلظة والكفارة إن كان قتلا شبه عمد، وفيه الدية المخففة والكفارة إن كان قتلا خطأ، ودفع المال للآخر يختلف حكمه باختلاف قصد الدافع؛ فإن كان بغير عوض كان هبة، وإن كان على أن يرجعه الآخذ كان قرضا، وإن كان على يدفع الآخذ عوضا له كان هبة الثواب وتأخذ أحكام البيع.
الأدلة على هذا الأصل
وقد دل على هذا الأصل أدلة كثيرة منها قوله -عليه السلام-: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» متفق عليه، ومعناه: أن التصرفات تابعة للنيات؛ فنتيجة تصرفات المكلف والأحكام المترتبة عليها تختلف باختلاف نية المكلف.
النية الصادقة عمل صالح
ودلت النصوص الصحيحة على أن النية الصادقة عمل صالح يؤجر عليه الإنسان ولو لم يعمل شيئا، كقوله -تعالى-: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (النساء: 100)، قال ابن كثير: «أي: ومن يخرج من منزله بنية الهجرة فمات في أثناء الطريق، فقد حصل له عند الله ثواب من هاجر، ثم ذكر حديث: «إنما الأعمال بالنيات».
وقال ابن سعدي: «{فقد وقع أجره على الله} أي: فقد حصل له أجر المهاجر الذي أدرك مقصوده بضمان الله -تعالى-؛ وذلك لأنه نوى وجزم، وحصل منه ابتداء وشروع في العمل، فمن رحمة الله به وبأمثاله أن أعطاهم أجرهم كاملاً ولو لم يكملوا العمل، وغفر لهم ما حصل منهم من التقصير في الهجرة وغيرها».
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من همّ بحسنة فلم يعملها فعلم الله منه أنه قد أشعر قلبه وحرص عليها كتبت له حسنة «أخرجه أحمد وهو صحيح، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبته عينه حتى يصبح كتب له ما نوى، وكان نومه صدقة عليه من ربه» أخرجه النسائي وحسنه الألباني.
وقال شيخ الإسلام: « من نوى الخير، وعمل منه مقدوره، وعجز عن إكماله، كان له أجر عامل، كما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا، إلا كانوا معكم». قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: «وهم بالمدينة، حبسهم العذر».
المكلف قد يؤاخذ بقصده السيء
وقد صحح الترمذي حديث أبي كَبْشَة الأنماري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه ذكر أربعة رجال: «رجل أتاه اللّه مالًا وعلمًا، فهو يعمل فيه بطاعة اللّه. ورجل أتاه اللّه علمًا ولم يؤته مالًا، فقال: لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان. قال: فهما في الأجر سواء. ورجل آتاه اللّه مالًا ولم يؤته علمًا، فهو يعمل فيه بمعصية اللّه. ورجل لم يؤته اللّه مالًا ولا علمًا، فقال: لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان. قال: فهما في الوزر سواء».
وفي هذا الحديث وحديث ابن عباس الآتي دليل على أن المكلف قد يؤاخذ بقصده السيء، قال القرطبي: «في هَذِهِ الْآيَةِ (من سورة القلم) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَزْمَ مِمَّا يُؤَاخَذُ بِهِ الْإِنْسَانُ؛ لِأَنَّهُمْ عَزَمُوا عَلَى أَنْ يَفْعَلُوا؛ فَعُوقِبُوا قَبْلَ فِعْلِهِمْ».
فقوله -تعالى-: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} (القلم:25) يدل على عزمهم الأكيد على حرمان الفقراء من ثمار الحديقة، قال القرطبي: «الحرد: القصد»، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ -تعالى- عن المسجد الحرام: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ} (الحج: 25).
مراتب الهمّ بالسيئة
وأخرج الشيخان عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه عز وجل- أنه قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بيّـن ذلك؛ فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة».
يبين الشيخ ابن عثيمين مراتب الهمّ بالسيئة وأثر ذلك:
الأولى: العزم على فعل المعصية
أن يعزم على فعل المعصية ويقصدها جازما ثم يتركها لله -تعالى-، فهذا الذي يؤجر ويكتب الله له حسنة كاملة، كما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يقول الله: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة» قال ابن رجب: «لأن تركه المعصية بهذا القصد عمل صالح».
الثانية: العزم على المعصية لكن