قال -تعالى-: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} (سورة نوح:10-12)، هذه الآيات الكريمة في سياق قصة نبي الله نوح -عليه السلام- وامتثاله أمر الله -تعالى- بإنذار قومه وما جرى له معهم من الحوار والمجادلة، وكان من جملة ما قاله لهم ما ذكره الله -سبحانه- في هذا السياق.
قال ابن كثير: «{فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا} أي: ارجعوا إليه وارجعوا عما أنتم فيه، وتوبوا إليه من قريب، فإنه من تاب إليه تاب عليه، ولو كانت ذنوبه مهما كانت في الكفر والشرك؛ ولهذا قال: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا} أي: متواصلة الأمطار؛ ولهذا تستحب قراءة هذه السورة في صلاة الاستسقاء لأجل هذه الآية، وهكذا روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: أنه صعد المنبر ليستسقي، فلم يزد على الاستغفار، وقرأ الآيات في الاستغفار. ومنها هذه الآية (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا) ثم قال: لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء التي ستنزل بها المطر»، فمن المسائل المستفادة من الآية الكريمة: (مسألة فضل الاستغفار).
قال القرطبي: «في هذه الآية التي في (هود)، يعني قوله -سبحانه-: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} (سورة هود:3) دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والمطر» وذكر كيفية الاستغفار باختصار، وهو أن ذلك يكون عن إخلاص وإقلاع من الذنوب وهو الأصل في الإجابة.
أولا: تعريف الاستغفار
الاستغفار في اللغة: مصدر الفعل استغفر، وأصل المادة اللغوي: (غ ف ر) يدل على الستر والتغطية.
وفي الاصطلاح: قال الراغب: «الغفران والمغفرة من الله هو أن يصون العبد من أن يمسه العذاب. والاستغفار: طلب ذلك بالمقال والفعال».
وقال ابن القيم: «الاستغفار إذا ذكر مفردا يراد به التّوبة مع طلب المغفرة من اللّه، وهو محو الذّنب وإزالة أثره ووقاية شرّه، والسّتر لازم لهذا المعنى، كما في قوله -تعالى-: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّه كَانَ غَفَّارَاً}، فالاستغفار بهذا المعنى يتضمّن التّوبة.
أمّا عند اقتران إحدى اللّفظتين بالأخرى، فالاستغفار: طلب وقاية شرّ ما مضى، والتّوبة: الرّجوع وطلب وقاية شرّ ما يخافه في المستقبل من سيّئات أعماله، كما في قوله -تعالى-: {وَأَن اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثمَّ تُوبُوا إليه} (سورة هود:4).
ثانيا: فضل الاستغفار
أمر الله -تعالى- بالاستغفار في آيات كثيرة، وحث عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث عديدة، ومن ذلك عن أنسٍ قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: «قال الله: يا ابن آدم، إنَّك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أُبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عَنان السماء ثمَّ اسْتغفرتني غفرت لك ولا أُبالي، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرةً». رواه الترمذي. وحسنه الألباني.
وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم- قال: «قال إبليسُ: وعَزِّتك لا أبرح أُغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم؛ فقال: وعِزَّتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما اسْتغفروني». رواه أحمد والحاكم وصححه، وعن عبد الله بن بسرٍ قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم- يقول: «طوبى لمن وُجد في صحيفته استغفارٌ كثير» رواه ابن ماجه. وحسنه الألباني.
وعن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: «إنَّ العبدَ إذا أخطأ خطيئةً نَكَتَتْ في قلبه نُكْتَةٌ، فإن هو نَزَعَ واستغفرَ صقُلَتْ، فإن عاد زيد فيها حتى تعلوَ قلبه، فذلك الران الذي ذكر الله -تعالى-: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} «. رواه الترمذي وحسنه الألباني.
عن بلال بنِ يَسار بن زَيدٍ قال: حدَّثني أبي عن جدِّي، أنه سمعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم- يقول: «مَنْ قال: «أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحيُّ القيُّومُ وأتوبُ إليه»، غُفِرَ لَهُ وإنْ كان فَرَّ مِنَ الزَّحف». رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني.
مواضع الاستغفار
مطلوب من المسلم أن يديم الاستغفار في كل أحيانه، كما قال الحسن: «أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طُرقاتكم، وفي أسواقكم، وفي مجالسكم؛ فإنكم لا تدرون متى تنزل المغفرة»، وهناك مواضع عديدة يتأكد فيها الاستغفار منها:
- عقب الخروج من الخلاء فعنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- إِذَا خَرَجَ مِن الخَلَاءِ قَالَ: «غُفْرَانَكَ». أخرجه الترمذي وحسنه.
- وبعد الوضوء فعن أبي سعيد الخدري -موقوفا عليه- قال: «مَن توضَّأ فقال: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أنْ لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، كُتِب في رَقٍّ، ثم جُعِل في طابع، فلم يُكْسَر إلى يوم القيامة».
- وعند دخول المسجد والخروج منه فعن فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قالتْ: كان رسول الله إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلَّم، وقال: «رب اغفر لي ذنوبي، وافتَحْ لي أبواب رحمتك»، وإذا خرَج صلى على محمد وسلَّم، وقال: «رب اغفر لي، وافتَحْ لي أبواب فضْلك».
- وبين السجدتين فعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- َكَانَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: «رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي». رواه النسائي وصححه الألباني، وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاجْبُرْنِي، وَاهْدِنِي، وَارْزُقْنِي» رواه الترمذي وصححه الألباني.
- وبعد التشهد قال عليّ في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم-: «ثُمَّ يَكُونُ مِنْ آخِرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ» أخرجه مسلم.
- وعقب الصلاة بعد السلام فعن ثوبان قال: كان رسول الله إذا انْصَرف من صلاته استغفَر ثلاثًا، وقال: «اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركْتَ يا ذا الجلال والإكرام»، قال الوليد: فقلتُ للأوزاعي: كيف؟ قال: تقول: «أستغفر الله، أستغفر الله». أخرجه مسلم
- وعند النوم فعن أبي سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن قال حين يأوي إلى فراشه: أستغفرُ الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاث مرات، غَفَر الله له ذنوبَه، وإنْ كانتْ مثل زَبَد البحر» أ