
وبشـر الصابرين (1)
قال الله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} (آل عمران: 200)، من الأخلاق الفاضلة اللازمة للإنسان عموما، وللمؤمن خصوصاً في هذه الحياة خُلُق الصبر، وإن شئت فقل: هو جماع كثير من الأخلاق التي ينبغي أن يتعامل به العبد في هذه الحياة حينما يبتلى ويختبر من رب العباد سبحانه وتعالى، وحينما يواجه صعوبات الحياة ومشكلاتها، وحينما يتعامل مع الناس قريبهم وبعيدهم، محسنهم ومسيئهم؛ ولذلك جاء الحث عليه في القرآن الكريم وفي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
أهمية الصبر
قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعون أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون} (البقرة: 155، 156، 157).
إن الله تعالى جعل الصبر جواداً لا يكبو، وصارماً لا ينبو، وجنداً لا يُهزم، وحصناً حصيناً لا يُهدم، وهو مطيّة لا يضل راكبها؛ فهو والنصر أخوان شقيقان، فالنصر مع الصبر، وهو أنصر لصاحبه من الرجال بلا عدّة ولا عدد، ومحله من الظفر محل الرأس من الجسد، وهو سبيل النجاح والفلاح، وهو فضيلة يحتاج إليه الإنسان في دينه ودنياه.
معني الصبر
الصبر خلق من أخلاق النفس، به تسكن عند البلاء والمصيبة، وهو حبس النفس عن الجزع، واللسان عن الشكوى، والجوارح عن لطم الخدود وشق الثياب ونحوهما، والصبر زاد لازم إلى الممات؛ فالحياة لا تستقيم إلا بالصبر، فهو دواء المشكلات لدار الابتلاء، والصبر زاد المجاهد إذا أبطأ عنه الصبر، وزاد الداعية إذا أبطأ عنه الناس بالإجابة، وزاد العالم في زمن غربة العلم، وزاد الشاب في زمن الأهواء والشهوات والشبهات، بل هو زاد الكبير والصغير، والرجل والمرأة، فبالصبر يعتصمون، وإليه يلجؤون، وبه ينطلقون.
فضائل الصبر وفوائده
- يكفي الصابرين شرفاً أنهم في معيّة الله، فظفروا بها بخيري الدنيا والآخرة، وفازوا بها بنعمة الله الظاهرة والباطنة، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} البقرة153.
- الإمامة في الدين منوطة بالصبر واليقين؛ فقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} السجدة:24، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «بالصبر واليقين؛ تُنال الإمامة في الدين».
- علّق القرآن الفلاح عليه؛ فقال الله -سبحانه وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران:200).
- وإذا كانت الأعمال لها أجر معلوم محدود فإن الصبر لا حد لأجره، قال تعالى: {ِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} الزمر:10.
- جعل الله للصابرين أموراً ثلاثة لم يجعلها لغيرهم، كل منها خيرٌ مما عليه أهل الدنيا يتحاسدون، وهي الصلاة والرحمة والهداية {وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}، وفي الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: «وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر».
- جعل الله -تعالى- الصبر عوناً وعدة، وأمر بالاستعانة به، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} البقرة:153، فمن لا صبر له؛ لا عون له.
-علّق النصر على الصبر والتقوى؛ فقال تعالى: {بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} (آل عمران:125 )، وقال -صلى الله عليه وسلم -: «واعلم أن النصر مع الصبر» رواه الترمذي.
- أخبر الله -جل وعلا- أن ملائكته تسلّم في الجنة على الصابرين فقال: {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} الرعد:24، سلام عليكم بما صبرتم على الطاعات، وصبرتم عن الشهوات، وصبرتم على البلاء، سلام عليكم؛ فنعم عقبى الدار .
- جعل الله الصبر على المصائب من عزم الأمور وهذه مرتبة لا ينالها أي أحد؛ فقال -عز وجل-: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}(الشورى:43)، ولمن صبر على الأذى، وقابل الإساءة بالعفو والصفح والسَّتر, إن ذلك من عزائم الأمور المشكورة والأفعال الحميدة التي أمر الله بها، ورتَّب لها ثوابًا جزيلا وثناءً حميدًا.
وأوصى لقمان الحكيم ولده بأن يصبر على ما أصابه في سبيل الله: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}(لقمان:17).
- حكم الله بالخسران حكماً عاماً على من لم يكن من أهل الصبر فقال: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.
- بين الرسول -صلى الله عليه وسلم - أن الصبر ضياء، كما جاء في حديث مسلم فقال: «الصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك».
أنواع الصبر
- أولها صبرُ على البلاء وهو بضاعة الصديقين؛ ولهذا كان -صلى الله عليه وسلم - يدعو ويقول «وأسألك من اليقين ما تُهوِّن عليّ به مصائب الدنيا».
ولهذا وصف الله -تعالى- أولياءه وأحبابه بالصبر؛ فقال عن أيوب -عليه السلام- وأثنى عليه بأحسن الثناء؛ لأنه صبر فقال: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (ص:44)، فمدحه بقوله نعم العبد لأنه صبر.
والناس يبتلون على حسب دينهم وعلى حسب صبرهم، أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه؛ فإن كان دينه صلباً وعنده صبر قوي زيد له في البلاء ليزداد أجرا، ويوم القيامة يود أهل العافية عندما يعطى أهل البلاء الثواب ويقسم عليهم، الذين صبروا في الدنيا، يتمنون لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بمقاريض..! الحديث في الترمذي وحسنه الألباني.
وتلك الأمة السوداء التي جاءت تشتكي للنبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أُصرع وإني أتكشف فادعُ الله لي، قال: «إن شئتِ صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيكِ» فقالت: أصبر ولكن ادع الله لي ألا أتكشف. فدعا لها فكانت تصرع ولا تتكشف. متفق عليه.
الصبر عن المعصية
- والنوع الثاني من أنواع الصبر: الصبر عن المعصية فهو من أعظم أنواع الصبر؛ ولهذا ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم - سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فالإمام صبر عن الظلم، والشاب صبر عن الفاحشة، والغني عن تناول اللذات والشهوات، وصبر المتصدق على إخفاء الصدقة من بعضه، وصبر المتحابان في الله على ذلك الحال في حال اجتماعهما وافتراقهما، وصبر الباكي من خشية الله على كتمان ذلك عن الناس.
الصبر على طاعة الله
- أما النوع الثالث من أنواع الصبر فهو: الصبر على طاعة الله؛ فالطاعة والتكليف سميا بذلك؛ لأن فيها كلفة ومشقة على النفس الإنسانية تحتاج لمجاهدة ومكابدة ومداومة وصبر على ذلك حتى تستقيم على طاعة الله تعالى.
الصبر على الدعوة
- النوع الرابع: الصبر على الدعوة إلى الله -تعالى- والعمل لدينه: قال الله -تعالى-: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور} (لقمان: 17)، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُون} (الأحقاف: 35): فهذا نوحٌ -عليه السلام- صبر في دعوته على قومه صبراً عظيماً دام ألف سنة إلا خمسين عاماً، وصبر على الإيذاء والسخرية، اتهموه بالجنون والسحر والضلال وهو يقابل ذلك بالصبر حتى قالوا: {لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين}، وإبراهيم تعرض لمحنة عظيمة، وصبر صبر الموحد الموقن بوعد الله، حتى لما ألقي في النار قال: {حسبي الله ونعم الوكيل}، والنبي -صلى الله عليه وسلم - قال لما تذكر أخاه موسى: «يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» رواه البخاري، وعيسى عانى من بني إسرائيل من التهم الباطلة، تآمروا على قتله وصلبه وصبر حتى رفعه الله إليه. وخاتم الأنبياء -صلى الله عليه وسلم - كم تعرض للأذى والاضطهاد! قالوا عنه مجنون ساحر كذاب وخائن، وأشد شيء على الصادق أن يتهم بالكذب ,وأشد شيء على العاقل أن يقال عنه مجنون، وأشد شيء على الأمين أن يتهم بالخيانة، وأشد شيء على المؤمن أن يقال عنه شاعر ساحر به جنّة، وهو أكمل الخلق وأصدقهم وأعقلهم.
الصبر على أذى الناس
- النوع الخامس: الصبر على أذى الناس والتحلي بخلق العفو: قال الله -تعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم - بعدما مُثِّلَ بحمزة رضي الله عنه يوم أحد {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرين وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُون} (النحل: 126، 127).
وذكر الله -تعالى- عن نبيه يعقوب -عليه السلام- وقد جاءه الأذى من أقرب الناس إليه من أولاده في أحب الناس إليه في ولده يوسف {وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُون} (يوسف: 18).
لاتوجد تعليقات