رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: محمد حنيف الجالندهري 15 أبريل، 2019 0 تعليق

مُحْكَماتُ الدينِ وضَرورياتُهُ

قال الله -تعالى- في محكم كتابه: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (لقمان:22)، وقال -سبحانه-: {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة:256).

     قال الإمام البغوي -رحمه الله- في تفسيره: {ومن يسلم وجهه إلى الله}، يعني: لله، أي: يخلص دينه لله، ويفوض أمره إلى الله، {وهو محسن}، في عمله، {فقد استمسك بالعروة الوثقى} أي: اعتصم بالعهد الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه، وهو المحكم في الدين، {وإلى الله عاقبة الأمور}، قال عطاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: العروة الوثقى هي: شهادة ألا إله إلا الله، وما جاء به محمد حق وصدق، وقال مجاهد: هي الإيمان.

وجل المفسرين فسروا (العروة الوثقى) بالمحكم في الدين أو ما في معناه.

مصطلح المحكم في الدين

     ويطلق مصطلح المحكم في الدين أو المعلوم من الدين بالضرورة على الأحكام التي قررتها النصوص التشريعية القطعية في ثبوتها ودلالتها، ولا تقبل التأويل والنسخ، وهي واجبة التطبيق في كل زمان ومكان، ويستوي في الالتزام بها: العلماء وغيرهم، ولا تسقط عن المكلف إلا عند الضرورة والعجز الجسدي أو العقلي، ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم المحكم في قوله: «بني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت».

وقبل ذكر الأحكام التي دلت عليها النصوص دلالة قطعية، نذكر تعریف (المحكم)، و(الضروري).

     حيث عرفه الشريف الجرجاني (المتوفى: 816ه) بقوله: «المحكم: ما أحكم المراد به عن التبديل والتغيير، أي التخصيص والتأويل والنسخ، مأخوذ من قولهم: بناء محكم، أي متقن مأمون الانتقاض، وذلك مثل قوله -تعالى-: {وإن الله بكل شيء عليم} (الأنفال:75)، والنصوص الدالة على ذات الله تعالى وصفاته؛ لأن ذلك لا يحتمل النسخ».

وقال ابن تيمية: «الضروري هو الذي يلزم نفس المخلوق لزوما لا يمكنه الانفكاك عنه؛ فالمرجع في كونه ضروريا إلى أنه يعجز عن دفعه عن نفسه».

وضروريات الدين: ما علم كونه من الدين بالضرورة، بأن تواتر واستفاض، وعلمته العامة، كالوحدانية، والنبوة، والبعث والجزاء، وفرضية الصلاة والزكاة، وحرمة الخمر ونحوها.

فعلم من هذا التفصيل أن المحكم في الدين وضروريه أمر واحد، في كونه معلوما بالبداهة، ولا يحتمل التأويل والنسخ بأي حال.

المحكم والضروري في الدين:

والأحكام التي دلت عليها النصوص دلالة قطعية ثلاثة أقسام:

١- العقائد وما يتصل بها من الإيمان بوحدانية الله -سبحانه وتعالى-، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وما فيه من ثواب وعقاب، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وأن القرآن الكريم آخر الكتب المنزلة، وأنه جاء للناس كافة، وأنه محفوظ من التغيير والتحريف إلى أن يقوم الناس لرب العالمين، فهذه الأحكام لا مجال للاجتهاد فيها، ولا يجوز لأي إنسان مهما بلغ أن يقول فيها برأيه واجتهاده؛ فهي حقائق ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان.

أحكام يقينية

2 - أحكام يقينية قطعية نقلت إلينا بالتواتر القطعي بنقل الخلف عن السلف جيلا بعد جيل، من عهد النبوة إلى الآن، وهي أحكام يشترك في معرفتها الخاصة والعامة؛ لأنها من الضروريات التي يجب على كل مسلم ومسلمة أن يؤمن بها، وذلك كفرضية الصلوات الخمس، وعدد ركعات كل صلاة، وصوم رمضان، ووجوب الزكاة على من ملك نصابها، ووجوب الحج على المستطيع مرة واحدة في العمر، والحدود المقدرة، وحرمة الزنا والربا وشرب الخمر، وغير ذلك مما هو معلوم من الدين بالضرورة؛ فمثل هذه الأحكام التي دلت عليها النصوص القطعية في ثبوتها دلالة قطعية، وتواتر نقلها جيلا بعد جيل لا مجال للاجتهاد فيها؛ لأنها ثابتة لا تتغير بتغير العصر والمصر.

القواعد الكلية

٣- القواعد الكلية التي أخذت من الشريعة بنص صريح، أو استنبطت من نصوص الكتاب والسنة بواسطة استقراء الأحكام الواردة فيهما، أو استنبطت من عموم العلة التي تربط بها بعض الأحكام، ويمثل للأولى بقاعدة: «لا ضرر ولا ضرار»، أو البينة على من ادعى واليمين على من أنكر»، فهاتان القاعدتان في أصلهما نصوص وأحاديث نبوية، ويمثل للنوع الثاني من القواعد التي استنبطت من النصوص بقاعدة: «المشقة تجلب التيسير،، كما يمثل للنوع الثالث من القواعد التي استنبطت من عموم العلة بقاعدة: «اليقين لا يزول بالشك».

فهذه الأنواع الثلاثة من الأحكام قطعية، ولا مجال للاجتهاد فيها، وما دلت عليه هو معلوم من الدين بالضرورة.

ويحسن أن ورد هنا ما ذكره العلامة أنور شاه الكشميري -رحمه الله- في هذا السياق؛ حيث قال: «الأحكام الدينية في الشريعة الإسلامية الغراء، التي تعد من ضروريات الدين منحصرة عند الأصوليين في ثلاثة:

مدلول الكتاب بشرط أن يكون نصا صريحا لا يمكن تأويله، كتحريم الأمهات، والبنات، وتحريم الخمر والميسر، وإثبات العلم والقدرة والإرادة والكلام لله -تعالی.

ومدلول السنة المتواترة لفظا أو معنی، سواء كان من الاعتقاد أم من العمل، وسواء كان فرضا أم نفلا، كوجوب محبة أهل البيت من الأزواج والبنات، والجمعة والجماعة، والأذان والعيدين.

والمجمع عليه إجماعا قطعيا».

- العقيدة: هي أول شيء محكم وضروري في الدين، وهي في اللغة: مأخوذة من العقد، وهو الربط والشد بقوة، وفي الاصطلاح: «الإيمان الجازم بالله، وما يجب له في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، وبما جاءت به النصوص الصحيحة من أصول الدين وأمور الغيب وأخباره».

أصول العقائد

     واتفق الأئمة المتبوعون على أصول العقائد، ولا خلاف بينهم فيها، إلا ما أثر عنهم من الخلاف المعتبر المبني على الاجتهاد في بعض فروع العقائد، ولا يخفى على أحد أهمية العقيدة الإسلامية؛ إذ دعا إليها الرسل جميعهم -عليهم السلام-، وهي الغاية الأولى من خلق الإنسان والجن، وأن قبول الأعمال والنجاة في الآخرة إنما يتوقف على اعتناق العقيدة الصحيحة، وتركيز القرآن الكريم على العقيدة الصحيحة بيانا ودعوة وتوضيحا يتطلب منا تكثيف الجهود في تعزيز علاقة المسلم بعقيدته؛ لتكون لديه حصانة تعصمه من التأثر بما يحيط به من عقائد وأفكار فاسدة، وبالجملة فإن العقيدة الصحيحة هي الأساس الذي يقوم عليه الدين، وتصح معه الأعمال؛ فالعقائد الإسلامية المتفق عليها، الواضحة المحكمة تأخذ صفة المرجعية، وهي التي تجمعنا وتخرجنا من الاحتراب، ومن بؤرة النزاع الطائفي والتحزب.

- الأحكام: أصول الأحكام الإسلامية متفق عليها ومحكمة، لا تتغير ولا تتبدل، وهي: القرآن، السنة، الإجماع، والقياس؛ فلم يختلف أحد من الأئمة المتبوعين في أنها مصادر التشريع الإسلام، ولم يختلفوا أيضا أن الأحكام والأحاديث التي وصلت إلينا بطريق التواتر كلها محكمة، لا يعتريها النسخ ولا التبديل.

الأخبار الواردة بالتواتر

     ولأن الأخبار الواردة بالتواتر تحتل مرتبة كبيرة في ضروریات الدين ومحكماته؛ فإنه ينبغي علينا معرفة التواتر في معناه الواسع دون حصره في نطاق محدود، وفي ذلك يقول شيخ مشايخنا العلامة أنور شاه الكشميري -رحمه الله-: «إن التواتر قد يكون من حيث الإسناد: كحدیث: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار»، ذكر في (الفتح): أنه ثبت صحيحا وحسنا من طريق ثلاثين صحابيا.

وقد يكون من حيث الطبقة، كتواتر القرآن، تواتر على البسيطة شرقا وغربا، درسا وتلاوة وقراءة، وتلقاه الكافة عن الكافة طبقة عن طبقة، اقرأ وارق إلى حضرة الرسالة، ولا تحتاج إلى إسناد يكون عن فلان عن فلان.

وقد يكون تواتر عمل وتواتر توارث، وقد تجتمع أقسام كما في أشياء من الوضوء كالسواك من المضمضة، والاستنشاق.

ثم إن التواتر یزعمه بعض الناس قليلا، وهو في الواقع يفوق الحصر في شريعتنا، ويعجز الإنسان عن فهرسته، ويذهل الإنسان عن التفاته؛ فإذا التفت إليه رآه متواترا، وهذا كالبدهي، كثيرا ما يذهل عنه ويحفظ النظري».

باب المحكم  والضرورة

تفيدنا هذه النصوص أن باب المحكم والضروري من الدين واسع جدا، لا مجال لحصره، والخلاصة أن المعلوم من الدين بالضرورة هو: المجمع عليه إجماعا قطعا. المعلوم من الدين تواترا حتی استوى في علمه العامة والخاصة.

الذي حصل إدراكه ووصوله إلى التنفس، حتی تعجز عن دفعه، ولا يشترط كونه على موازين المناطقة في العلم وتقسيمه الاصطلاحي.

كل ما أفاد علما ضروريا في الشرعیات، فهو من المعلوم من الدين بالضرورة.

المعلوم من الدين

     ونخلص بذلك إلى نتيجة مفادها أن المعلوم من الدين لا يقتصر على العقائد؛ بل يشمل العبادات، ولا يقتصر كذلك على المطلوب فعله أو تركه جزما، بل يشمل أيضا كل ما كان مشروعا في الدين اتفاقا، وقد قال الخطيب الشربيني في (مغني المحتاج): «لو قال أو  نفى مشروعية مجمعا عليها، لشمل إنكار المجمع على ندبه؛ فقد صرح البغوي في تعليقه بتكفير من أنكر مجمعا على مشروعيته من السنن، كالرواتب وصلاة العيدين، وهو لأجل تكذيب التواتر، ويتعين فيما ذكر أن يكون الحكم المجمع عليه معلوما من الدين بالضرورة، وإن لم يكن فيه نص».

حد العلم الضروري:

     باب ضروریات الدین باب واسع جدا، فهل له حد أم لا؟ نذكر طرقا من النصوص التي تلقي الضوء على الإجابة عن هذا السؤال: قال ابن تيمية-رحمه الله-: «الضروري هو الذي يلزم نفس المخلوق لزوما لا يمكنه الانفكاك عنه؛ فالمرجع في كونه ضروريا إلى أنه يعجز عن دفعه عن نفسه»، وقال أبو الفرج في مقدمة (الإيضاح) في الفقه: «حد العلم الضروري في اللغة: الحمل على الشيء والإلجاء إليه، وحده في الشريعة: ما لزم نفس المكلف لزوما لا يمكنه الخروج عنه»

وقال الآمدي: «هو العلم الحادث الذي لا قدرة للمكلف على تحصيله بنظر و استدلال».

خلاصة القول

     خلص البحث إلى أن باب المحكمات والضروريات من الدين واسع جدا، والصفة اللازمة لها: أنها ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان، ولا باختلاف البيئة وتنوع المعطيات، ولا يجري عليها التبديل أو التعديل أو التطوير أو الزيادة، وأنها واضحة لا لبس فيها، واضحة وضوح الشمس، ومن أعظم ما في المحكمات أنها تحافظ على الدين والدنيا.

والأمر إن كان هذا شأنه؛ فإنه يجب عينا أخذه بصفة المرجعية عند الاختلاف؛ لأن المحكمات من القرآن تجمعنا، والمحكمات من الحديث والسنة تجمعنا، والمحكمات من العقائد والأحكام تجمعنا، فلا بد من التركيز عليها عند الدعوة والبيان، والخطب والمواعظ.

التوصيات:

- إيضاح أهم الأصول وتحديدها التي يمكن أن يبنى عليها التصور الإسلامي للاختلاف على المستوى الإنساني.

- عدم الإنكار والتشنيع على المخالف فيما يجوز الاختلاف فيه مهما كان واضحا للآخرين خطأ المخالف؛ ذلك أن الخطأ في الاجتهاد لا يستدعي المفارقة ولا التفسيق ولا التكفير مهما كان ذلك الخطأ، لعموم النصوص الواردة في ذلك.

- الحكم على المسلمين هو على ظواهرهم فقط، أما النيات فعلمها عند الله -عز وجل-، وهو الوحيد المطلع عليها، وليس من واجب المسلم ولا من حقه أن يسعى لاستكشافها.

- وضع آلية محددة للاختلاف في الجانب الفكري والتصوري، وفي الجانب الفقهي والتشريعي المتعلق بما يجب على المسلم تجاه أخيه المسلم في مسائل الاختلاف.

- وأخيرا من فقه الاختلاف: معرفة الآداب الإسلامية الواجبة في الحوار والجدل، وليس من المبالغة القول: إن جزءا كبيرا من اختلاف المسلمين وفرقتهم اليوم إنما نشأ بسبب عدم التزامهم بأدب الحوار والجدل، وإن مستقبل المسلمين -في نظري- مرهون إلى درجة كبيرة بمدى قدرتهم على إدارة خلافاتهم بالأسلوب الذي يرتضيه ويقرره الإسلام، وعلى الأسس الشرعية المعتبرة.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك