
معالم التـأديب التربـوي في الحلقات القرآنية (3) وظائف الحلقات القرآنية
تعد الحلقات القرآنية إحدى البيئات التربوية الفعالة في المجتمع، وتاريخها مرتبط بتاريخ التأديب والتعليم في الإسلام؛ حيث تعد الحلقات القرآنية من أقدم مؤسسات تعليم الأطفال وتأديبهم في الإسلام، وقد برزت مكانة هذه البيئات التعليمية عبر تاريخ الإسلام، وكانت لها وظائف متعددة، تتمثل في تعليم القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، وأصول العقيدة والعبادات، والتأديب على الأخلاق الإسلامية، والشمائل، والفضائل الحسنة، ولم يكن دورها مقتصرا على حفظ القرآن الكريم فقط كما هو حال الحلقات المعاصرة؛ وعليه فالباحث يرى إعادة النظر في وظائف الحلقات القرآنية المعاصرة؛ حيث يؤكد على ضرورة قيام الحلقات بالوظائف التالية:
الوظيفة الدينية التعبدية
يجب أن يدرك القائمون على الحلقات القرآنية من المشرفين والمعلمين والآباء والتلاميذ، أن الانضمام إلى هذه الحلقات أمر تعبدي، وأن الحلقات القرآنية تنطلق من هذه المهمة، أي أنها مكان للعبادة، باعتبار أن الغاية الأساسية من خلق الإنسان هي عبادة الله -عز وجل- {وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون}(الذاريات: 56)، وعليه فالمقصود بالوظيفة التعبدية للحلقات القرآنية هي قراءة القرآن الكريم وحفظه، فضلا عن أن الحلقة تكون غالبا في المسجد الذي خصص للعبادة، كما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما هي -أي المساجد- لقراءة القرآن وذكر الله والصلاة»؛ وعليه فقد كانت خير وسيلة لتلاوة القرآن وحفظه والمداومة على الاجتماع في الحلقات القرآنية المسجدية؛ حيث يجتمع التلاميذ باستمرار في بيوت الله لتلاوة القرآن وحفظه ومدارسته؛ فيحصل لهم بهذا الاجتماع نزول السكينة، وغشيان الرحمة، وحضور الملائكة، والذكر الرباني في الملأ الأعلى، قال الرسول[: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلاّ نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده»، وإذا كان الحديث فيه إشارة إلى فضل المسجد ومكانته؛ فإن حلق تلاوة القرآن الكريم صورة من صور الوظائف التعبدية لهذه البيئات التربوية.
الوظيفة التربوية
عندما جعلنا الوظيفة التعبدية للحلقات القرآنية هي الوظيفة الأولى فلا يعني أنها تقتصر على هذه الوظيفة فحسب؛ لأن هذا الفهم يفقد الحلقات القرآنية رسالتها الشمولية ووظيفتها التربوية، ولو كان الأمر كذلك لما أصبحت الحلقات القرآنية إحدى المحاضن التربوية الأساسية في أنحاء المعمورة، وهذا يعني أن للحلقات القرآنية وظيفة أخرى، هي الوظيفة التربوية التي تجعل طالب الحلقة القرآنية شخصية متميزة منتجة، نظراً لعناية الحلقة بمقومات شخصية التلميذ، المتمثلة في الجانب الإيماني، والعقلي والجسمي.
شخصية الطالب
إن عناية الحلقات القرآنية بجوانب شخصية الطالب سوف يحقق الوظيفة التربوية لهذه الحلقات، لاسيما وأن القرآن الكريم اشتمل على التوجيه الشامل لهذه الجوانب، ويستطيع المعلم الإشارة إلى هذه الجوانب، وتربية التلاميذ على أخلاق القرآن، والتأكيد على أهمية الإيمان وغرس عقيدة الإيمان في قلوب التلاميذ من خلال الآيات القرآنية التي أكدت على العقيدة الإسلامية، وقضايا الإيمان بالله -عز وجل- وأركانه كما جاءت مفصلة في السور المكية على وجه الخصوص، التي يبدأ التلميذ بحفظها ودراستها، وهكذا تثمر تنمية الجانب الإيماني لدى المتعلم في الحلقة القرآنية،حتى يكون لدى طلاب الحلقات القناعة الكاملة بأن الإيمان بالله -عز وجل- هو أساس السعادة في الدارين؛ فأكثر الناس سعادة المؤمنون، وأكثر الناس شقاءً الخارجون عن الإيمان في الحياة الدنيا»؛ وبهذا سوف يتحقق قول الطالب وعمله واعتقاده مع مقتضيات الإيمان الصحيح.
الوظيفة الأخلاقية
إن الأخلاق مفرد خلق، والخلق هو الدين والطبع والسجية، وقد عبر عنها ابن حجر في الفتح بقوله: «الأخلاق أوصاف الإنسان التي يتعامل بها مع غيره، وهي محمودة ومذمومة؛ فالمحمود منها مثل العفو، والحلم، والجود، والصبر، وتحمل الأذى، والرحمة، والشفقة، والتواد، ولين الجانب، ونحو ذلك والمذموم منها ضد ذلك».
وبهذا تكون التربية الخلقية في الحلقات القرآنية هي مجموعة القيم العليا والصفات الفاضلة التي يغرسها المعلم في نفوس طلابه من خلال الممارسة اللفظية، أو السلوكية، ينعكس أثرها على الجوارح سلوكاً حسنا ًمحمودا، وهذا يعني تعويد طلاب الحلقات على الأخلاق الفاضلة، والشيم الحميدة حتى تصير له ملكات راسخة وصفات ثابتة يسعد بها في الدنيا والآخرة .
سلوكيات طلاب الحلقات
إن تنمية الجانب الأخلاقي تحتاج إلى تعليم وتبصير، وخير من يسهم في تحقيق ذلك بعد الأسرة، هي الحلقات القرآنية، وقد حث الإمام فخر الدين الرازي على الجمع بين التعليم، والتزكية في قوله -تعالى-: {يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم} ونصه: «اعلم أن كمال حال الإنسان في أمرين، هما أن يعرف الحق لذاته، والثاني،أن يعرف الخير لأجل العمل به؛ فإن أخل بشيء من هذين الأمرين، لم يكن طاهرا من الرذائل، ولم يكن زكياً عنها» ومانشاهده اليوم لدى كثير من طلاب الحلقات القرآنية يؤكد هذه الحقيقة .
الوظيفة الاجتماعية
لما كان الإنسان اجتماعيا بطبعه، وبحاجة إلى إشباع الجوع الاجتماعي لديه، صغيراً كان أم كبيراً، كان ذلك أمراً ضرورياً في بناء شخصيته، جاء اجتماع التلاميذ في الحلقات القرآنية محققاً لهذه الوظيفة، من خلال قيام المعلم بالتوجيه وبناء العلاقات بينهم، سواء علاقتهم بالمعلمين، أم بإمام المسجد، أم المصلين، أم الآباء، أم علاقتهم فيما بينهم، حتى يتحقق الوصف النبوي «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد»، وقد أكد القدماء أهمية هذا الجانب؛ حيث قالوا: «إن الإنسان محتاج إلى صديق عند حسن الحال، وعند سوء الحال؛ فعند سوء الحال يحتاج إلى معونة الأصدقاء، وعند حسن الحال يحتاج إلى المؤانسة وإلى من يحسن إليه».
وفي ظني أن إكساب التلميذ في الحلقات القرآنية الآداب الاجتماعية، مثل آداب التحية والسلام، والتعامل مع الآخرين، واللباس، وآداب الدخول والخروج، وآداب المسجد، وآداب الحديث وغيرها من الآداب الاجتماعية، أمر ذو بال، ولا ينبغي إهماله بحال من الأحوال؛ بحجة الخوف من التسييس التربوي .
الوظيفة العقلية
يعد الجانب العقلي من مكونات الشخصية المهمة؛ فهو المحرك للبدن، يقول ابن القيم: «إن العقل ملك والبدن روحه وحواسه وحركاته كلها رعية له؛ فإذا ضعف عن القيام عليها وتعهدها وصل الخلل إليها كلها».
وبالعقل يقوم المتعلم بمختلف عملياته العقلية مثل عملية الإدراك، والتعلم، والتعرف والفهم؛ ولذلك قال ابن المبارك عندما سئل: ما أفضل ما أعطى الرجل بعد الإسلام؟ قال: «العقل» وتربية هذا الجانب يتم من خلال تنمية القدرات العقلية للفرد، كالقدرة اللغوية، والقدرة الرياضية، والقدرة على الاستنباط والاستدلال، والقدرة على الملاحظة، والنقد الهادف، والتحليل الموضوعي، وتنمية العمليات العقلية المختلفة، مثل عمليات الإدراك، والحفظ، والتذكر، والتحليل، وسرعة التذكر، والاسترجاع، وعمليات مقاومة النسيان، وتنمية العادات والاتجاهات ذات الارتباط بالناحية العقلية، كحب المعرفة، والاستطلاع، والقراءة، والكتابة، ومهارة التفكير، وتوعية التلميذ بالمؤثرات التي تضعف هذه القدرات.
أجيال واعية
إن تنمية هذه الجوانب لدى المتعلم في الحلقات القرآنية يخرج أجيالاً واعية قوية علمياً، لايمكن أن تتأثر بعوامل الضعف العقلي؛ لأن العقل يساعد الفرد على التمييز بين الخير والشر، والحسن والقبيح، والفضيلة والرذيلة، والخطأ والصواب؛ فهو المرآة التي يعرف بها الحسن والقبيح«؛ ولما كان العقل إحدى السمات التي يتميز بها الإنسان عن المخلوقات؛ فإنه بالعقل يستطيع الإنسان أن يوظف الحقائق العلمية توظيفاً ملائماً.
الوظيفة النفسية
تبرز أهمية هذه الوظيفة كونها من العوامل المهمة في تكوين شخصية الفرد، وطلاب الحلقات القرآنية أحوج الناس إلى هذه الرعاية النفسية، لاسيما في واقعنا المعاصر الذي يتسم بالتغيرات السريعة وضغوط الحياة، وتناقضات المجتمع، الأمر الذي يجعل الرعاية النفسية تساعد الفرد على بناء اتجاهات نفسية سليمة نحو نفسه ونحو الناس ونحو الحياة، كما أن للمتعلم في الحلقات القرآنية احتياجات نفسية ينبغي على القائمين على الحلقات القرآنية مراعاتها، والعمل على إشباعها وعدم مصادمتها؛، لما لذلك من أثر إيجابي على الحفظ والمراجعة والاستماع، فضلا عن أن هذه الحاجات إذا لم تشبع بطريقة مشروعة؛ فقد تشبع بطريقة خطأ، الأمر الذي يؤدي إلى انحراف التلميذ وجنوحه، ومن هنا جاءت ضرورة إشباع حاجته إلى الأمن، والحب والمحبة، والرعاية التربوية والتوجيه، والحاجة إلى التقدير الاجتماعي، والنجاح، واحترام الذات، والترويح التربوي الهادف .
لاتوجد تعليقات