
مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف (3)
ما زال حديثنا موصولاً عن قصة شباب الكهف، هؤلاء الفتية الذين لم يكن بينهم سابق معرفة أو صداقة، ولكنَّ الرابطة التي جمعتهم هي رابطة الإيمان والعقيدة، وبغض الشرك وأهله، وقد تحدثنا في الحلقة الماضية عن تفاصيل هذه القصة، وكيف فر هؤلاء الفتية إلى الكهف؟ ثم تحدثنا عن تأخر الوحي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكرنا أن هذا التأخر كان شاهدًا على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم ذكرنا حال فتية الكهف وكيف أنهم كانوا شبابًا يقظًا، وذكرنا سبب فرارهم، ثم تحدثنا عن أهمية مرحلة الشباب في نصرة الدين وحمل أعباء الرسالة، واليوم نكمل ما بدأناه.
الرحمة الخاصة
قال الله -تعالى-: {فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا}، من الفقه الذي أنعم الله به على هؤلاء الفتية أنهم لما أوَوْا إلى الكهف بادروا بالابتهال إلى الله، ودعوه أن يُؤتِيَهم رحمةً من لدنه، أي: من عنده، وهذا أبلغ مما لو قالوا: آتنا رحمة؛ لأنَّ الخلق كلهم بمحل الرحمة من الله، ولكنَّهم سألوه رحمةً خاصةً وافرةً، ولا سيما مع توقعهم وقوع الضرر عليهم، وقصدوا من ذلك الأمن على إيمانهم من الفتنة؛ ولئلا يلاقوا في اغترابهم مشقةً وألمًا، وألا يهينهم أعداء الدِّين فيصيروا فتنة للقوم الكافرين.
الثبات على الدين الحق
ثم سألوا الله أن يقدِّر لهم أحوالًا تكون عاقبتها حصول الثبات على الدين الحق والنجاة من كيد المشركين، فعبَّر القرآن عن ذلك التقدير بالتهيئة التي هي إعداد أسباب حصول الشيء، وكان من مظاهر رحمة الله بهم أن ضرب عليهم هذا النوم الطويل؛ لينجيهم من بطش الظالمين بهم وتسلطهم عليهم، وهذا نظير ما ألقاه الله على الصحابة مِن النوم في غزوة بدر، قال الله -تعالى-: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} (الأنفال:11)، وهذا هو الموضع الوحيد الذي ذكر الله فيه النعاس في القرآن الكريم.
ما أجمل هذا الدعاء!
وما أجمل هذا الدعاء! حين يجعله المؤمن من محفوظاته ومما يعتاده لسانه، فأي خير يمكن أن يحصل للإنسان إذا شملته رحمة الله، وإذا هداه الله إلى أرشد أمرِه؟! إن هذا الدعاء له في قلوب المؤمنين لذةٌ خاصةٌ ومنزلةٌ فريدةٌ، إذا ما ترسخ في قلوبهم حقيقته، وأبصرت عيونهم أنهار الخير المتدفقة من بين كلماته، فلذلك استجاب الله دعاءهم، وقيَّض لهم ما لم يكن في حسابهم، قال -تعالى-: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} أي: ألقى عليهم النوم لمدة ثلاث مائة سنة وتسع سنين، فهل كان يظن هؤلاء الفتية أن تغشاهم الرحمة التي التمسوها مِن الله بهذه الطريقة؟! فقد حفظهم الله بهذا النوم من الخوف والقلق والاضطراب، فإذا دعوت الله فكن على يقين بأن رحمة الله واسعة، وأن خزائنه ملأى، وأن عطاياه لا تخطر على قلب بشر.
التشريف العُلوي
قال -تعالى-: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}، من مظاهر تشريف الله لشباب الكهف: أن الله -تبارك وتعالى- خلَّد ذكرهم، واصطفاهم على غيرهم؛ ليجعلهم محل العبرة والعظة، ولكي يبقى ذكرهم في أعظم كتاب أنزله على أكرم رسول، فما أعظمه مِن كهفٍ كان دخولهم فيه عبورًا إلى بوابة عظماء التاريخ!
التكريم الإلهي
وهذا التكريم الإلهي مما يبُثُّ الأمل في النفوس، ويُعلِّق القلوب بخالقها -عز وجل-؛ فالعزُّ والتمكين يأتي من عند الله، فقد أهلك الله الملك الظالم واختفى اسمه ورسمه، أمَّا فتية الكهف فقد حفظ الله سيرتهم، وأعلى من شأنهم، وشهد القرآن لهم بالإيمان، وستظل قصتُهم باقيةً للأجيال حتى يرث الله الأرض ومَن عليها، هذا التكريم الراقي لم يدُرْ بخُلْد فتية الكهف وهم يبتهلون إلى الله أن يشملهم بعطفه ورحمته، ولكنَّ الله واسع الفضل والكرم.
{وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}
وتأمل قول الله -عز وجل-: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}؛ لتعلم أنَّ الجزاء من جنس العمل، وأن الإيمان لا يأتي إلَّا بخير، فالفتية آمنوا بالله أولًا فكافأهم الله على هذا الإيمان بأن هداهم إلى أرشد أمرهم، وزادهم هدىً على هدىً، كما وصف الله حال المؤمنين في قوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} (محمد:17)؛ فذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء، وفي مقابل ذلك: ذكر الله حال الكافرين والظالمين فقال: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (آل عمران:178)، فسبحان الملك العدل الذي لا يظلم مثقال ذرة! قومٌ يوفقهم للزيادة مِن الطاعة والإيمان، وآخرون يُمنِّيهم حتى يتوغلوا في الإثم والعصيان.
وصفهم بالفتية مدح لهم
وفي تأكيد وصفهم بالفتية مدح لهم؛ لأن غالب أحوال الفتيان اللهو والعبث، فكونهم بهذا المستوى من الثبات والإيمان يستوجب مدحهم والإشادة بهم، وهكذا كان هناك في كل أمة شباب يوفقهم الله للإيمان به وتأييد رسله، في الوقت الذي يُعرض فيه الرجال الكبار والشيوخ الحكماء، قال ابن كثير -رحمه الله-: «ذكر -تعالى- أنهم فتية وهم الشباب، وهم أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل، ولهذا كان أكثر المستجيبين لله -تعالى- ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - شبابًا، وأما المشايخ من قريش: فعامتهم بقوا على دينهم، ولم يسلم منهم إلا القليل».
الانطلاقة الفتية
قال الله -تعالى-: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}، المقصود من الربط على القلب هو: تثبيت الإيمان، وعدم التردد فيه، والقيام المذكور في الآية يحتمل أن يكون حقيقيًّا، بأن وقفوا بين يَدَي الملك الكافر، أو وقفوا في مجامع قومهم خطباء معلنين فساد عقيدة الشرك، ويحتمل أن يكون القيام دلالةً على الإقدام والشجاعة، فقد صاروا يدًا واحدةً، وأعان كل منهم الآخر، وصاروا إخوان صدقٍ، وتوافقوا على كلمة واحدة حتى يتمكنوا من عبادة الله -عز وجل.
عظيم رحمة الله بهم
وتأمل في كلمة: {وَرَبَطْنَا}؛ لتعلمَ عظيم رحمة الله بهم؛ فالله هو الذي جمع قلوبهم أولًا على التقوى والإيمان والهدى، ثم جمع قلوبهم ثانيةً على الأُلْفة والمحبة والترابط، ثم جمع قلوبهم ثالثةً على الصَدْع بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجمع قلوبهم رابعةً في التصدي للكفر ومواجهته، وإقناعه بالحُجَّة والبرهان.
فالله هو الذي يربط على القلوب ويُقوِّيها، ويثبتها ويصبِّرها، ويشجعها؛ حتى لا تخاف فيه لومةَ لائم، وحتى تقوم بدعوة الحق، فيصغر الناس في نظر صاحب هذا القلب الشجاع الذي ليس عنده من أسباب الدنيا وأسباب الحماية ما عند الناس، ولا ما يدفع به عن نفسه، ولكن يربط الله -عز وجل- على قلبه فيقوم لله -سبحانه وتعالى- بحقه؛ فلا يعبأ بالخلق أمامه.
القضية مدارها على القلب
إذا علمتَ ذلك؛ فتأكد أنَّ القضية مدارها على القلب، فإذا صلحت قلوب الدعاة إلى الله -عز وجل- هيأ الله لهم من أسباب النصر والظفر ما لم يدُر في حسبانهم، وإذا صلحت قلوب العاملين من أجل الدِّين؛ فتح الله لهم قلوب العباد لكي تستجيب لهم وتؤمن بدعوتهم.
مكافأةً لهم على إيمانهم
وإذا تأملت في هذه الآية وما قبلها: تعلم أن الله ربط على قلوب الفتية مكافأةً لهم على إيمانهم وهدايتهم، فهذه القلوب التي جعلها أهلها محلًّا للإيمان والتقوى والصلاح، لابد أن يملأها الله ثباتًا وسكينةً، كما قال الله -عز وجل- عن الصحابة: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (الفتح:4)، بخلاف الكافرين والمنافقين الذين تمتلئ قلوبهم شكًّا وريبةً وترددًا، قال -تعالى-: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} (التوبة:45).
الله -عز وجل- هو مقلب القلوب
فالله -عز وجل- هو الذي يقلِّب القلوب كيف يشاء، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ قَلْبٍ إِلَّا وَهُوَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، إِنْ شَاءَ أَنْ يُقِيمَهُ أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُزِيغَهُ أَزَاغَهُ»؛ ولذلك فالعبد المؤمن دائمًا ينظر إلى فضل الله -سبحانه وتعالى-، ويتضرع إليه بأن يُثبِّت قلبه على دينه، وأن يَربِط على قلبه، كما وصف الله -عز وجل- حال المؤمنين في غزوة بدر، فقال -سبحانه وتعالى-: {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} (الأنفال:11).
فالله ربط على قلوب الصحابة حتى قويت وثبتت، فلم تنهر أو تتزلزل حين رأت الكفار، وانظر إلى الفرق بين قلوب الصحابة -رضي الله عنهم- وبين قلوب المنافقين في مثل هذه المعركة وغيرها من المعارك، كما قال -سبحانه وتعالى- عن المنافقين في غزوة بدر: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال:49)، فإذا أردتَ أن تزداد هدىً فأقْبِل على الله، وسوف يقذف الله في قلبك مزيدًا من الخير والصلاح والإيمان.
فقههم بقضية التوحيد
وتأمَّل في فقه هؤلاء الفتية بقضية التوحيد وطرائق إثباتها؛ فإنهم عندما أرادوا أن يقيموا الحُجَّة على قومهم بوجوب وحدانية الله، استدلوا عليهم بما هو مستقر في العقول من باب الفطرة، فالله هو الذي خلق السماوات والأرض، وهو ربنا وربكم شئتم أم أبيتم، ومن ثم فهو المستحق للعبادة، فكأنَّ المُقدمة هي: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، وهي مقدمة حتمية، ومن ثم فالنتيجة الملزمة هي: {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا}.
لاتوجد تعليقات