
فوضى فكرية
من البديهي أنه لولا اتباع نظم المرور وقوانينه وإرشاداته لما تمكنَّا من السير في الشارع بأمان، ولولا الالتزام بأوقات الحصص واتباع القوانين المدرسية لعمت الفوضى في المدارس في كل مكان، كما أن تغيب الوالدين عن أبنائهما لفترات طويلة، دون وجود من ينوب عنهما لتنظيم أحوال الأسرة قد يولِّد تفككا أسريًّا وضياعا للأبناء، ولا يمكننا العيش في أمن وسلام لو لم تسن قوانين تجرم المجرمين، وتلاحقهم وتعاقبهم.
فما بالنا نسمع أصواتا ترتفع بين الحين والآخر تطالب بالتحلل من بعض القوانين الإلهية، التي سنَّها مالك الملك لتنظيم الحياة وتقنين الأهواء؟! بالرغم من تأييدها لأهمية تطبيق القوانين واللوائح الوضعية في المجتمع، وباتت تشكك في بعض الثوابت الدينية، بل وترفض بعض مكونات شريعتنا الإسلامية من تشريعات قد سنّها مالك الملك، فقط لكونها لا توافق هواهم، ولا تتناسب مع مصالحم الذاتية رغم عدالتها! ألم يقل -جل جلاله-: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} سورة الملك(14)؟!
هم يتبعون أهواءهم، مغترين بتفسيراتهم الذاتية بمعزل عن الضوابط الشرعية، المستنبطة من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، كما فهمها الصحابة -رضوان الله عليهم-، ومن تبعهم بإحسان من الصالحين، والفقهاء وعلماء الدين، وقد وجه الرحمن -عز وجل- خطابا لمثل هؤلاء بقوله -تعالى-: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة:50)؟!
هم كثيرا ما يهاجمون الملتزمين في شتى وسائل الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي، ويظهرون سخرية بمظاهر الالتزام بتعاليم الدين وشعائره، وينادون بالتخفف منها شيئا فشيئا، في حين أنهم من أشد الناس هجوما واستهزاءً بالدِّين وأهله، إلا أنهم كثيرا ما يدّعون أن رجال الدين ينصبون لهم العداء والبغضاء؛ ذلك لأنهم أعداء لما يجهلون!
نراهم تارة يقعون في شبهات شركية عقدية، وتارة أخرى يحوٍّرون أحكاما فقهية، مطالبين بعزل الدين عن الدنيا والابتعاد عن الخطاب الديني في حل الأزمات المعاصرة لمجتمعنا، بل إنهم - وباسم الحرية الفكرية أو الليبرالية، أو العلمانية - لايؤيدون الأمر بالمعروف أوإنكار المنكر، ولو كان بألطف الأساليب، ويطعنون في أحكام شرعية قطعية قد أُجمِع عليها، كإباحة بعضهم للربا في المعاملات المالية، أو تهميش آخرين لحجاب المرأة المسلمة، وعدَّه أمرًا اختياريا لايلزمها، وقد يحاربونه مدعين - عمدًا أو جهلاً - أنه غير مفروض على المرأة شرعًا، بل قد وصل الأمر بهم إلى حث الأخريات على نزعه، وتوجيه المباركات لهن بعد استجابتهن لدعواتهم التحررية!
أقول لهؤلاء: مهلاً! هلّا أفصحتم عن حقيقة انتمائكم؟! هل للإسلام أم لغيره؟!
فإن أقررتم بانتمائكم للإسلام نقول لكم: أو ليس الخالق بأعلم بمصلحة المخلوقين من أنفسهم؟ ألم تقرؤوا قول الله -تعالى-: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (النجم:32)؟!، وقوله -عز وجل-: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} (الأحزاب:36)؟!
إن الأمر خطير جدا؛ حيث إننا نجد - ولاسيما في السنوات الأخيرة الماضية - كثيرا ممن يساندون هؤلاء، ويؤازرونهم، ينشرون أفكارا غريبة، فيها مخالفات صريحة لأصول الدين وثوابته، بل كثيرا ما نقرأ لهم، ونسمع منهم كلامًا قد يحمل في طياته تحللا عقديّا، أو إلحادا مقنَّعًا، وإن كانوا غالبًا لا يصرحون بذلك!
لقد كاد كثير منهم أن ينسلخ من كل مظهر إسلامي شيئًا فشيئًا، بل وربما قد تبرأ بعضهم تدريجيا من الانتماء إلى دينٍ بعينه والعياذ بالله، مغترين بما تمليه عليهم عقولهم من تحليلات، وبما تقودهم إليه أهواؤهم من تأويلات، قال -جل وعلا-: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} (النمل:24).
لا شك أن السبب الرئيسي الذي يكمن وراء تلك الظواهر هو ضعف الإيمان بالله ابتداءً، ثم الاغترار بالعقل الذي يعيش في حالة فوضى فكرية عارمة، من جراء بُعدِه عن الشرع، فيقل توقير الله -سبحانه وتعالى- في القلب، فيُستهان بأوامره، وتقبل نواهيه، أما من ازداد إيمانه بالله -تعالى-، ووقَّره في قلبه، وأسلم له عقله، وأصلح على هداه فكره، نراه يعظِّم أوامر الله -تبارك وتعالى-، ويستعظم ارتكاب النواهي والزواجر ويستهجنها.
لاتوجد تعليقات