
فقه الأسماء الحسنى(4) – اقتضاءُ أسماءِ الله لآثارها مِنَ العُبُوديَّة
إن أسماء الله الحسنى وصفاته العليا مقتضيةٌ لآثارها من العبودية والأمر اقتضاءها لآثارها من الخلق والتكوين، وقد مضى الحديث عن اقتضائها لآثارها من الخلق والتكوين، والحديث هنا في اقتضائها لآثارها من العبودية، كالخضوع، والذل، والخشوع، والإنابة، والخشية، والرهبة، والمحبة، والتوكل، وغير ذلك من أنواع العبادات الظاهرة والباطنة؛ فإنَّ كلَّ اسم من أسماء الله وكلَّ صفة من صفاته له عبودية خاصة هي من مقتضياتها ومن موجبات العلم بها والتحقق بمعرفتها، وهذا مُطَّرِد في أنواع العبودية جميعها التي على القلب والجوارح، وبيان ذلك أنَّ العبد إذا علم بتفرُّد الرب -تعالى- بالضر والنفع والعطاء والمنع والخلق والرزق والإحياء والإماتة؛ فإن ذلك يثمر له عبوديَّةَ التوكل على الله باطناً ولوازم التوكُّل وثمراته ظاهراً.
قال الله -تعالى-: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا}(الفرقان: 58)، وقال -تعالى-: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}(الشعراء: 217)، وقال -تعالى-: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا}(المزمل: 9)، وقال -تعالى-: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا}(النساء: 81).
الله سميع بصير
وإذا علم العبد بأن الله سميع بصير عليمٌ، لا يخفى عليه مثقالُ ذرَّة في السموات والأرض، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، وأنه -تبارك وتعالى- أحاط بكلِّ شيءٍ علماً، وأحصى كلَّ شيء عدداً؛ فمن علم باطِّلاع الله عليه ورؤيته له وإحاطته به؛ فإن ذلك يثمر له حفظ اللسان والجوارح وخطرات القلب عن كلِّ ما لا يُرضي الله وجَعْلَ تعلُّقات هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه، قال الله -تعالى-: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى}(العلق: 14)، وقال -تعالى-: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(الحجرات: 1)، وقال -تعالى-: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(فصلت: 40)، وقال -تعالى-: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ}(البقرة: 235)؛ فلا ريب أنَّ هذا العلم يورث في العبد خشية الله ومراقبته، والإقبال على طاعته، والبعد عن مناهيه، قال ابن رجب: «راوَدَ رجلٌ امرأةً في فلاةٍ ليلاً فأبت؛ فقال لها: ما يرانا إلا الكواكب؛ فقالت: فأين مُكوكِبُها؟!». أي: أين الله، ألا يرانا؟ فمنعها هذا العلم اقتراف هذا الذنب والوقوع في هذه الخطيئة.
الله غنيٌّ كريمٌ
وإذا علم العبد بأنَّ الله غنيٌّ كريمٌ، بَرٌ رحيمٌ، واسع الإحسان، وأنه -تبارك وتعالى- مع غناه عن عباده؛ فهو محسنٌ إليهم رحيمٌ، بهم، يريد بهم الخير، ويكشف عنهم الضرَّ، لا لجلب منفعة إليه من العبد، ولا لدفع مضرَّة، بل رحمةً منه وإحساناً؛ فهو -سبحانه- لم يخلق خلقه ليتكثَّر بهم من قلَّة، ولا ليعتزَّ بهم من ذلَّة، ولا ليرزقوه ولا لينفعوه، ولا يدفعوا عنه كما قال -تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}(الذاريات: 56 - 58)، وقال -تعالى-: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا}(الإسراء: 111)، وقال -تعالى- فيما رواه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم : «يا عبادي، إنكم لن تبلغُوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضرِّي فتضرُّوني» رواه مسلم.
فإذا علم العبد ذلك أثمر فيه قوَّة الرجاء- قوة رجائه بالله- وطمعه فيما عنده، وإنزالَ حوائجه جميعها به، وإظهارَ افتقاره إليه واحتياجه له {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}(فاطر: 15)، والرجاء يثمر أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفة العبد وعلمه.
عدل الله وانتقامه
وإذا علم العبدُ بعدل الله وانتقامه وغضبه وسخطه وعقوبته؛ فإن هذا يثمر له الخشية والخوف والحذر والبعد عن مساخط الرّبَ، قال الله -تعالى-: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(البقرة: 196)، وقال الله -تعالى-: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}(البقرة: 203)، وقال -تعالى-: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(البقرة: 209).
جلال الله وعظمته
وإذا علم العبد بجلال الله وعظمته وعُلُوِّه على خلقه ذاتاً وقهراً وقدراً؛ فإنَّ هذا يثمرُ له الخضوع والاستكانة والمحبة وجميع أنواع العبادة، قال الله -تعالى-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}(الحج: 62)، وقال -تعالى-: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}(البقرة: 255)، وقال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}(الزمر: 67).
كمال الله وجماله
وإذا علم العبد بكمال الله وجماله أوجبَ له هذا محبَّةٌ خاصَّةً وشوقاً عظيماً إلى لقاء الله، «ومن أحبَّ لقاء الله أحبَّ الله لقاءه» متفق عليه، ولا ريب أن هذا يثمر في العبد أنواعاً كثيرةً من العبادات؛ ولهذا قال -تعالى-: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}(الكهف: 110).
العبوديَّة بجميع أنواعها
وبهذا يُعلَم أن العبوديَّة بأنواعها راجعة إلى مقتضيات الأسماء والصفات؛ ولهذا فإنه يتأكَّد على كل عبد مسلم أن يعرف بَّه ويعرف أسماءه وصفاته معرفة صحيحة سليمة، وأن يعلم ما تضمنته وآثارها، وموجبات العلم بها؛ فبهذا يعظم حظُّ العبد، ويكمل نصيبه من الخير.
المؤمن الموحِّد
إن المؤمن الموحِّد يجد بإيمانه ويقينه بأسماء ربه الحسنى وصفاته العليا الدالة على عظمة الله وكبريائه وتفرده بالجلال والجمال ما يجذبه إلى اجتماع همه على الله حباً وتذلُّلاً، خشوعاً وانكساراً، رغباً ورهباً، رجاءً وطمعاً، وتوافر همته في طلب رضاه باستفراغ الوسع في التقرب إليه بالنوافل بعد تكميل الفرائض، والتوفيق والرشد بيد الله لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ولا حول ولا قوَّة إلا به -عزوجلَّ.
لاتوجد تعليقات