
ذم الانقياد للهوى في منهج الإصلاح
إنّ منهجَ الإصلاحِ الحقّ منهجٌ نبويٌّ ربّانيٌّ؛ لا ينبغي لمن سلكه أن يحيد عنه انقيادًا لهوى في نفسه والعياذ بالله وإلا صار إفساده أعظم مما يرجو من إصلاح. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «وإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات أو المستحبّات لا بُدّ أن تكون المصلحةُ فيها راجحة على المفسدة؛ إذ بهذا بُعثتِ الرُّسُل، ونَزَلت الكُتُب. واللهُ لا يحبُ الفَسَاد، بل كلُّ ما أمَرَ الله به هو صلاح. وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين، والذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذمّ الفساد والمفسدين في غير موضع. فحيث كانت مفسدةُ الأمر والنهي أعظم من مصلحته، لم يكن مما أمر الله به، وإنْ كان قد تُرك واجبٌ وفُعِل مُحَرّم؛ إذ المؤمنُ عليه أن يتقي الله في عباد الله، وليس عليه هُداهم..».
فعلى المُصلح أن يتجرد لا لنفسه ولا لهواه ولا لحزب ينتمي إليه؛ وإنما عليه أن يتجرد في عملية إصلاحه لله -عزّوجلّ-؛ فيلتزم بالانقياد لنصوص الشرع، فمن التزم بذلك كان مُصْلحًا، وإن لم يلتزم؛ فقدَّم ما تمليه عليه نفسه وهواه وانتماءاته الحزبية كان ما يفسده أكثر مما يصلحه.
الإصلاح المشروع
التزامٌ بما يمليه الشرع مع التجرد عن الهوى، وإنّ مما يُؤسف عليه اليوم أن تجد من ينتسب لمنهج الإصلاح - بزعمه -؛ وهو في طريقته يحيد عنه بسبب الهوى - علم أو لم يعلم - وترك ما يقوم عليه المنهج الصحيح من وجوب إخلاص النية مع تمام الانقياد للأوامر الربّانيّة والتوجيهات النبويّة في طريقة الإصلاح. قال ابن تيمية -رحمه الله-: “فإنّ من الناس من يكون حبُّه وبغضُه وإرادتُه وكراهتُه بحسب محبَّتِه نفسَه وبغضِها لا بحسب محبَّةِ اللهِ ورسولِه، وبغضِ اللهِ ورسولِه، وهذا نوعٌ من الهوى، فإن اتبعه الإنسانُ فقد اتبع هواه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (القصص: 50)؛ فإنَّ أصلَ الهوى محبةُ النفس، ويتبع ذلك بغضُها.
اتباع الهوى
والهوى نفسه - وهو الحب والبغض الذي في النفس - لا يُلامُ العبد عليه؛ فإنّ ذلك قد لا يملكه، وإنّما يُلام على اتّباعه كما قال -تعالى-: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (ص: 26). وقال -تعالى-: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (القصص: 50). وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاث منجيات: خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الفقر والغنى، وكلمة الحق في الغضب والرضا. وثلاثٌ مهلكات: شحٌ مطاعٌ، وهوًى متبعٌ، وإعجاب المرء بنفسه». والحبُّ والبغض يتبعه ذوقٌ عند وجود المحبوب والمبغَض، ووَجْدٌ وإرادةٌ وغير ذلك، فمن اتّبع ذلك بغير أمر الله ورسوله فهو ممن اتّبع هواه بغير هدًى من الله، بل قد يتمادى به الأمر إلى أن يتخذ إلهه هواه».
التجرُّؤ على المنهج النبويّ
لا يختلف أحدنا أن المعصية بدافع هوى النفس وشهواتها من أجل حُطام الدنيا ولذّاتها الفانية هي ذنب عظيم؛ لما فيها من انتهاك حُرمات الله عزّ وجلّ. ولكن ما يجب أن يعرفه الجميع أنّ الأعظم من ذلك هو التجرُّؤ على المنهج النبويّ الربّاني باسم الدِّين وباسم الإصلاح وباسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..؛ فالجُرم هنا متعدٍ ويمس الدّين والمعتقد. فتَقَرُّب العبد إلى الله بما لم يشرعه الله أو يشرعه رسوله، بل قد يكون مخالفًا للشرع انقيادًا لهوى في نفسه؛ إنه لخطر عظيم يُدخِل صاحبَه باب البدع والمحدثات في الدّين.
اتباع الأهواء في الديانات
قال ابن تيمية -رحمه الله-: «واتباع الأهواء في الديانات أعظم من اتباع الأهواء في الشهوات، فإنّ الأولَ حالُ الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين كما قال -تعالى-: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (القصص: 50) وقال -تعالى-: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ..} إلى أن قال: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الروم: 28، 29) وقال -تعالى-: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الأنعام: 119)، وقال الله -تعالى-: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} (المائدة: 77). وقال -تعالى-: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (البقرة: 120). وقال -تعالى-: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (البقرة: 145)، وقال -تعالى-:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (المائدة: 49).
موجب الكتاب والسنة
ولهذا كان من خرج عن موجب الكتاب والسنة من المنسوبين إلى العلماء والعبَّاد يُجعل من أهل الأهواء كما كان السلف يسمُّونهم أهل الأهواء. وذلك أن كل من لم يتّبع العلم فقد اتّبع هواه، والعلم بالدين لا يكون إلا بهدى الله الذي بعث به رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ ولهذا قال -تعالى-: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الأنعام: 119)، وقال في موضع آخر: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (القصص: 50).
الواجب على العبد
فالواجب على العبد أن ينظر في نفس حبه وبغضه، ومقدار حبه وبغضه: هل هو موافق لأمر الله ورسوله؟ وهو هدى الله الذي أنزله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ بحيث يكون مأمورًا بذلك الحب والبغض، لا يكون متقدمًا فيه بين يدي الله ورسوله؟ فإنه قد قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (الحجرات: 1).
التقدم بين يدي الله ورسوله
ومن أحب أو أبغض قبل أن يأمره الله ورسوله؛ ففيه نوع من التقدم بين يدي الله ورسوله، ومجرد الحب والبغض هو هوًى، لكن المحرَّم منه اتّباع حبه وبغضه بغير هدًى من الله؛ ولهذا قال الله لنبيه داود: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} (ص: 26). فأخبر أن من اتّبع هواه أضلّه ذلك عن سبيل الله وهو هداه الذي بعث به رسوله وهو السبيل إليه».
الإصلاح منهجٌ توقيفي
ولنعلم أن الإصلاح منهجٌ توقيفيٌ لا يقوم إلا على الإخلاص لله -عزّ وجلّ- واتباع طريقة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وتوجيهاته، وكل ما خالف ذلك فليس من الإصلاح، بل الإصلاح بريء منه، قال ابن تيمية -رحمه الله-: “وتحقيق ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من أوجب الأعمال وأفضلها وأحسنها وقد قال -تعالى-: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (هود: 7)، وهو كما قال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: أخلصه وأصوبه. فإن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبل حتى يكون خالصًا صوابًا. والخالصُ أن يكون لله، والصوابُ أن يكون على السُّنّة.
دعوة الشرع للإصلاح
فشرعُ الله -عزّ وجلّ- لم يدْعُ إلى الإصلاح بوسائلَ مفسدتُها أعظم من مصلحتها؛ ولم يدْعُ إلى الإصلاح بوسائلَ مرفوضةٌ شرعًا وعقلا، فإن ذلك من المَحال. فلم يكن يومًا التجرُّؤ على أصل من أصول الإسلام وهو الأمر بالاجتماع حول الإمام - الحاكم - المسلم؛ بتأجيج العامة وتأليب السفهاء عليه.. لم يكن ذلك وسيلة من وسائل الإصلاح، بل عدّه الشرع وسيلة من وسائل الإفساد؛ وحذّر منها، وقد تضافرت نصوص الشرع بالأمر بالاجتماع حول الإمام المسلم ونبذ الفرقة والتحزّب؛ ولا ينكر ذلك إلا من خالج هواهُ نيَّته وخالجت نيَّته ما تمليه عليه انتماءاتُه الحزبية. وإنك لَتعجب ممن زعم الإصلاح من دعاة هذا الزمان كيف خالفوا هذا الأصل العظيم؟ انقيادا لما تمليه عليهم أهواؤهم وانتماﺀاتُهم الحزبية، فتراهم يتطاولون على الحُكام المسلمين، ويتجرؤون عليهم، بالطعن فيهم، وإظهار مثالبهم والتشهير بذلك أمام العامة، ويرون أن ذلك وسيلة من وسائل الإصلاح -زعموا؛ فيفرّقون جماعة المسلمين، ويُضعفون دولة الإسلام، فيقدمونها لقمة سائغة مستساغة للأطماع الخارجية، بل والأدهى من ذلك والأمَرّ أنهم يستَعْدُون المنظمات المشبوهة بمسمى الحقوق والحريات!!نعوذ بالله من الهوى والضلال.
لاتوجد تعليقات