حوار حول بناء الشخصية السلفية في ظل المتغيرات (3 )
ما زال الحديث موصولا عن بناء الشخصية السَّلفية في ظل المتغيرات، وقد ذكرنا أن السلفيين أولى الناس بالدَّليل وأسعدهم به، الذي هو النَّص من الكتاب والسنة، وأن أهل السنة (أتباع منهج السلف) يقدرون العقل حقيقة، وذكرنا أن الرمي الدائم للسلفية بأنهم لا يحسنون استعمال العقل يستهدف إضعاف الاعتزاز بهذا المنهج، واليوم نتناول أحد مقومات الشخصية السلفية وهوالصبر.
في ظل المتغيرات الحديثة ينبغي أن يكون الصبر ملازمًا للشخصية السلفية، لماذا اخترنا الصبر دون سائر المقومات التي هي مقومات المسلم؟ لأن السلفيين الآن في وقتنا الحاضر عرضة لهجوم الجميع عليهم، في ظل تنوع مصادر النقد ومصادر الافتراء.
عامة الناس وصغارهم
ولم يعد العلماء هم الذين ينتقدون السلفية؛ وإنَّما أصبح عامة الناس، وصغار الناس، ومجاهيل الناس! الكل يتكلم والكل ينتقد؛ ففي الزمن الماضي من كان المستهدف بنقد السلفية؟ كان العلماء؛ لأنهم يؤلفون كتبًا حتى يرد عليه أحد علماء السلفية، الآن المستهدف بنقد السلفية هو الشَّاب السلفي، هم لا يستهدفون إسقاط العلماء، الآن تغيرت القضية، يستهدفون تفريق الناس عن أهل العلم، وتفريق الناس عن المنهج، إضعاف قوَّة المنهج في نفوسهم هو المستهدف؛ لأنَّ الشاب الآن صار يقرأ، كلكم تدخلون مواقع إلكترونية، كلكم تقرؤون، وكلكم ترون هذا الهجوم الكاسح.
على أي شييء نصبر؟
كان العلماء في الزمن الماضي يحملون عبء الدعوة، كان العلماء هم الذين يُهاجمون، وهم المسؤولون عن رد الناس، بينما طلبة العلم لا يستهدفون، طلبتهم قائمون بأعمالهم، يكفي أن يقول الشيخ: لا تشتروا هذا الكتاب فلا يشترونه، الآن تغير الوضع، إذاً المطلوب الصبر، الصبر على ماذا؟
الصبر على المنهج
الصبر على هذا المنهج {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (لقمان: 17) هذا هو العزم، الصبر ذكر في القرآن كما يقال (92) مرة، هو صبر للداعية على دعوته، صبر المسلم على إسلامه، صبر له على إيمانه، صبرٌ على ما يصيبه من نقدٍ وتجريحٍ وربما إهانة، ومحاولة زعزعة القيم في نفسك، محاولة تشكيكك.
تجارب عن فوائد الصبر
من التجارب على فوائد الصبر أن أحد النصارى قال: الكتاب المقدس عندكم وهو القرآن فيه كذب، كيف؟ قال: القرآن يقول: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} (الأحزاب: 4) وكذلك المرأة ليس في جوفها قلبان فلمَ خُصص الرجل؟ فتخصيصه دليل على أنه ليس من عند الله، وهذا الكلام العجيب قالته شابَّه نصرانية يبدو لي أنَّها قرأته من كتب المستشرقين أو غيرها، قالته في صالة المحاضرات التي يحاضر فيها: محمد أبو زهرة، وحينها قال لها محمد أبو زهرة: لا أعرف في ذلك جوابًا أو كلامًا لأهل العلم، ثم أجابها على البديهة: صدق الله وكذب ظنك، المرأة تحمل ويكون في جوفها جنين، وهذا الجنين فيه قلب، فيكون في جوفها قلبان.
فلو أنَّ هذه القضية طُرحت على شاب لم يكن عنده هذه المعرفة مثلًا وبدأ يتضايق منها ولم يصبر، ألا يتزعزع عنده اليقين؟ بلى يتزعزع إذا لم يصبر، وكثير من الشبه تطرح هكذا تباغت الإنسان فإن لم يجد ردًّا لها ضعف أمامها.
صبر العلماء والمشايخ
مداخلة: من التجارب على الصبر ما قام به المشايخ والدعاة من جهود تغيرت بسببها كثير من الأمور، وحفظوا المجتمعات من أن ينساقوا إلى جماعات منحرفة سواء كانت غالية أم منحلَّة، فنحن نرى الآن العودة إلى الالتزام بالسنة وانتشار الحجاب واللحى والاحتشام وغير ذلك، وكل ذلك نتيجة الصبر في الدعوة إلى الله.
د. السعيدي: أحسنت، فمثلًا نجد في بلدة من البلدان العربية أنَّ الأضرحة كثيرة جدًّا، يوجد في كل مكان ضريح، في كل مسجد ضريح، حتى أني زرت هذه البلدة في سنة 1407هـ يعني سنة 1987م وكان معي سائق، وكنت أقول له: أريد مسجدًا ليس فيه ضريح، وكلما أوقفني عند مسجد ودخلت قالوا: هذا مسجد الولي فلان، وبالكاد استطعت أن أجد مسجدًا؛ بل ليس مسجدًا وإنما زاوية كما يسمونها في تلك البلاد، وجدت زاوية ليس فيها ضريح، كانت عبارة عن مصلى تحت عمارة، كان هذا في عام 1987م، الآن ولله الحمد هذا البلد عينه بالرغم مما يقال من مظاهر التغريب والتغيير، وبالرغم من تقوية المتصوفة ودعمهم، الآن تجد المساجد التي بنيت على الأضرحة حتى كبار السن يتحرجون من الصلاة فيها، وبدأ الناس حتى غير المتدينين الذين ليس عندهم التزام وليس عندهم تدين إذا أراد أن يصلي في المسجد يتحرج من الصلاة في المساجد التي على القبور، فعلاً الصبر هو الذي يؤتي الثمار.
الجماعة الإسلامية
مداخلة: هي ليست تجربة لي لكن كمثال حضر في ذهني: الجماعة الإسلامية في مصر لما سجنوا، بعد سنوات أصدروا كتب المراجعات، ثم بعد ذلك اتضح أن كتب المراجعات هذه أغلبها يوافق المنهج السلفي، فلو أنهم صبروا مثل صبر السلفيين على العلم الشرعي وعلى الضوابط الشرعية لكانوا خرجوا بمثل هذه النتيجة دون هذه التنقلات الفكرية.
د. السعيدي: أحسنت، أقول لك: إن الجماعة الإسلامية في مصر حينما خرجت تراجعت بالدعوة مسافات بعيدة إلى الوراء، كانت الحكومة في عهد السادات قد بدأت تقدم للدعوة مساحة كبيرة جدًّا، وتعطيهم التراخيص والأذونات والسماح والتيسير والتسهيل، ولم يكن هناك أحد يمانع مثل هذا الأمر، بل كان المتدينون لدى الدولة أكثر مصداقية من اليساريين، في ذلك الوقت؛ فكان اليساريون هم أعداء الدولة، وكانت الدولة تراعي مصالح الإسلاميين؛ لأن البديل عنها هم اليساريون بمختلف أشكالهم، سواء كانوا شيوعيين أم كانوا مجرد اشتراكيين بمختلف الأشكال، فكانت هناك مساحة جيدة؛ لكن العجلة رجعت بهم بل وبالجميع.
عدم المداهنة
ومن المقومات -ولعله يكون الأفضل وليس ببعيدٍ عن الصبر: عدم المداهنة.
ما معنى المداهنة؟ هي: تقديم تنازلات عن الدين لأي مصالح أخرى، الله -عز وجل- يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} (الإسراء: 73)، وفي الآية الأخرى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} (الإسراء: 74)، يعني الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعطته قريش من التنازلات ما لو عرض على مثل الجماعات السياسية في الوقت الحاضر لرأوا فيها فرصًا أليس كذلك؟
قضية التدرج
قد يقول قائل: وكيف تقول في قضية التدرج؟
نقول: إما أن يكون التدرج في التشريع كما حصل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو التدرج في تطبيق الواجبات من باب عدم الإثقال على الناس، يعني أن تعطيهم أركان الإسلام أولاً، ثم تعلمهم الواجبات، وهو التدرج في التعليم، أمَّا التنازل عن أركان الدين وعن فروض الدين، والتنازل عن المحرمات، وادعاء أن الشذوذ ليس بحرام، والزنا ليس بحرام، وتصدير قوانين بذلك بحجة التدرج فهذه ليست تدرجًا.
تقديم الإسلام كاملاً
فأتباع منهج السلف يقدمون الإسلام كاملاً، وليس لديهم نفاق لدول غربية، وهذه فائدة، قضية أنَّ الدعوة تبدأ من القاعدة ولا تبدأ من القمة، أعني حينما انشغلت بعض الجماعات الإسلامية في قضايا التغيير السياسي وجدت أنها بحاجة كي تدخل مجال السياسية إلى التَّنازل، حتى إن أحد روؤساء الجماعات الإسلامية في بلدة عربية سُجن من أتباعه كثيرون؛ بعضهم سجن 15سنة، وبعضهم 20سنة، وبعضهم دخل السجن وهو ابن 15سنة وخرج من السجن وهو ابن أربعين سنة، يعني جلس في السجن 25سنة، سجن لماذا؟ سجن لأنه يطالب بدولة إسلامية لا علمانية، لا يريد العلمانية، هو ضد العلمانية، وهذا قد لا يعرف ما هي العلمانية، لكن يعرف أن العلمانية مضادة للإسلام، فناهض من أجل مكافحة العلمانية، ثمَّ لما خرج فوجئ بشيخه الذي دخل هو السجن من أجل دعوته ونبذ العلمانية يقول: العلمانية هي جزء من الإسلام والإسلام دين علماني! إذًا لماذا سُجنت 25 سنة؟ لماذا هذا الكلام؟
التفريط في ثوابت الدين
إذا بدأت من الأعلى تضطر للتنازل، لأن السياسة سيزاحمك عليها أناس آخرون، وتدخل في المزاحمة، وتدخل في قضية التجاذبات الدولية، وتدخل في أشياء كثيرة، وتبدأ تفرط في الدين، وفي ثوابت الدين، وهذا مشهور معروف؛ لكن حينما تبدأ في القاعدة، أنت في القاعدة لا يُطلب منك سياسة، ولا يطلب منك اتخاذ قرارات مناهضة للمجتمع الدولي، وإنما يطلب منك هذا الإنسان أن تعلِّمه توحيد الله -عز وجل-، تعلمه أركان الإسلام وأركان الإيمان وأركان الإحسان، وتدربه على هذه الممارسة، وتقوم معه بعمل دعوي، وتدربه على الصلاة، وتدربه على النوافل، وتدربه على الأعمال الروحية، أعمال القلوب تدربه عليها، حينما تفعل ذلك يكفيك، هذا هو الذي يطلبه الفرد منك، فحينما تشيع هذا العلم في المجتمع سوف يتغير الجميع، حتى السياسات سوف تتغير لصالحك، ولكن حينما تبدأ أنت من فوق، تبدأ أنت تتغير من أجل السياسات، وهذه هي المداهنة.
لاتوجد تعليقات