رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عبد المنعم الشحات 14 فبراير، 2016 0 تعليق

تجديد الخِطاب الديني بيْن المقبول والمردود (2)

الشريعة ذاتها تتضمن وسائل تنقيتها مِن الغلو والانحراف «لاسيما في قضية الجهاد» وإن علاج انحراف (داعش) -وغيرها- لايكون بالتلاعب بنصوص الشريعة

موضوع (تجديد الخِطاب الديني بين المقبول والمردود)، من خلال هذا العنوان يتضح أننا نريد أن نؤكِّد على أن مصطلح (تجديد الخطاب الديني) مِن المصطلحات التي تُطلق ويُراد بها معانٍ مختلفة؛ بعضها مقبولة وبعضها مردودة، ومِن ثَمَّ فالصواب أنه لا بد من تفصيل في تقرير هذا الحكم مِن أن الألفاظ المجْمَلة لا بد من الاستفسار عن المراد منها، وهذه قاعدة عامة في غاية الأهمية «ومخالفتها كانت سببًا في كثير مِن الفتن»؛ ونكمل الحديث بالتأكيد على تنبيهات مهمة حول تجديد الخطاب الديني فنقول:

- تنبيه حول القائلين بأن العبرة بخصوص السبب:

     يُجهِد العالمانيون أنفسهم بحثًا وتنقيبًا عن عالم يكون قد قال: «إن العبرة بخصوص السبب!»، وإذا وجدوا نقلاً في هذا المعنى هنا أو هناك هللوا له! وينبغي أن يعلموا أنه لم يقل أحد مِن المسلمين قط -غيرهم- بتاريخية النصوص الشرعية، وأن غاية مَن يدعي أن العبرة بخصوص السبب أنه لا يَعد الآية نصًّا إلا في السبب الذي نَزلت لأجله، ثم يُعدِّي الحكم إلى نظائره بنفي الفارق أو بالقياس، ويظل هذا دليلاً إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها؛ ومع هذا فمذهب «جماهير أهل العلم سلفًا وخلفًا» أن دلالة النصوص العامة على أفراد جنسها بعمومها اللفظي.

- لا يكفي الإقرار بعدم الاقتراب مِن النصوص ليكون تجديدًا منضبطًا:

     يرى بعضهم أنه يكفي -ضمانًا لعدم التلاعب- أن يُمتنع مِن الاقتراب من النصوص (الكتاب والسنة)، وهذا غير كافٍ؛ لأن بعض مَن يدْعون لذلك يريد الانقلاب على الفقه الإسلامي بوصفه كلاًّ؛ مما يقطع الصلة بين الأمة وبيْن النص؛ فالنص إنما بقي محفوظًا بما تلقته الأمة بالقبول مِن تفسيره مع وجود مساحة مقبولة مِن الخلاف في تفسيره.

- الشريعة صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان:

     الالتزام بتطبيق النصوص على حوادث جديدة متاح مِن خلال قواعدَ، أبرزها القاعدة التي تقول: «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب»، ومِن خلال أداة القياس، وكذلك مِن خلال معرفة العلل والمقاصد؛ مما يجعل (الفقه الإسلامي) مسايرًا لكل العصور، وغير منعزل عن أي منها.

الشريعة تتضمن قواعد التعامل مع الانحراف الذي عمَّ وانتشر، وذلك عبر الآليات الآتية:

أ- النصوص الآمرة بالرفق واللين والوسطية.

ب- الأدلة الدالة على اعتبار المصالح والمفاسد.

ج- الأدلة الداعية إلى التفريق بيْن حال الاختيار وحال الضرورة.

د- وبصفة أعم النصوص التي تبيِّن الفرق بين الحكم والفتوى.

هـ- مراعاة أن الرخص في حالة انتشار المشكلة في دولة أو مجتمع تَجُوز في أحوال أقل مِن الضرورة.

- ومِن ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم  لعائشة -رضي الله عنها-: «لَوْلا حَدَاثَةُ عَهْدِ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ، وَلَجَعَلْتُهَا عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ» (متفق عليه).

- فقه البدائل ودوره في التصدي لشيوع المعاني الفاسدة لتجديد الخطاب الديني:

     مما سبق نعلم أنه ليس كل مَن ينادي بتجديد الخطاب الديني يريد المعنى الفاسد، ودورنا بوصفنا دعاة أن نرشِدَ مَن نطق بكلام مجْمَل إلى أن يصرِّح بمعناه الحسن؛ لا سيما إن كان متبوعًا؛ لرياسةٍ أو علْم، ونكون بهذا قد نصحنا له ولمن وراءه، وأما محاولة تثبيت التهم على الناس؛ فسياسة (ميكيافلية) لا تناسِب الدعاة إلى الله بحال مِن الأحوال، بل والأخطر مِن هذا: أن بعض مَن يقبل بالدعوة إلى تجديد الخطاب الديني دون ضوابط يتصور أنه لا يمكن مقاومة الأفكار الخطأ -ولاسيما تلك التي لحِقتْ بمفهوم الجهاد-؛ إلا بالقبول بدعوة متحررة إلى تجديد الخطاب الديني!

     ولو أننا أحسنا العَرْض أن في الدين ذاته وسائل ضبط لهذه الأفكار المنحرفة لما عُرِّج على هذه القضية مِن الأساس، وقد علـَّمنا الشرع أننا متى وجدنا مخالفة أنكرناها، ولكن هذا لا يكفي، بل ينبغي أن نبحثَ عن الدافع الذي قاد الناس إلى التفكير أو القبول بهذه المخالفة، فإن وجدنا مسلكًا شرعيًّا يحقق الغرض ذاته أو قريبًا منه «وجبَ علينا بيانه»؛ ليكون أعون للناس على التزام الشرع، ومِن أمثلة ذلك: تحريم بيع الثمر قبل بدو صلاحه مع تشريع بيع السَّلَم بديلاً له يحقق أهدافه ذاتها، ويخلو مِن مفاسده.

ومِن هذا المنطلق نقول لهؤلاء:

     الشريعة ذاتها تتضمن وسائل تنقيتها مِن الغلو والانحراف -لاسيما في قضية الجهاد-، وإن علاج انحراف (داعش) -وغيرها- لا يكون بالتلاعب بنصوص الشريعة، بل العكس هو الصحيح؛ فانتشار الآراء الداعية إلى التلاعب بالدين هي أحد أهم أسباب اتجاه المتدينين عمومًا، والشباب خصوصًا إلى الأفكار المتطرفة، وإنما يجب تطبيق الشروط والآداب والأحكام التي في الشريعة ذاتها فيما يتعلق بمفهوم الجهاد، وهي كافية في الرد على هذه المفاهيم.

     ولا يمكن أن يطالِع عاقلٌ أبواب (الصلح والهدنة) مع المشركين، وغيرها من المعاني في كتب الفقه، ثم يطالِب المسلمين حكامًا ومحكومين أن يقاتِلوا العالم عن بكرة أبيه، بل لم يؤتَ مَن قال بذلك كـ(داعش) وغيرها إلا مِن إهمالهم الرجوع إلى كتب أهل العلم المعتبرين، كما ينبغي أن ندرك أن الإسلام يتضمن وسائل حماية أبنائه مِن التهور، ووسائل الحماية من التطرف. وذلك عبْرَ آليات كثيرة منها ما تقدم ذكرها.

الخلاصة:

     قال الله -تعالى-: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (البقرة:205)، فكل فساد روَّج له بعضهم «باسم الشريعة!»؛ فلا بد وأن يكون في الشريعة ذاتها ما يرده ويبيِّن فساده، والرد بهذه الطريقة لا نقول يقضي على الفساد نهائيًّا، ولكنه يقللـه إلى أدنى درجة، وأما ما سوى ذلك مِن المسالك؛ فتوفـِّر للمتطرفين «الشِّبَاكَ» التي يصيدون بها الشباب المتدين.

نسأل الله أن يوفـِّق الجميع لما يحب ويرضى.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك