
بعد عامين الثورة السورية.. إلى أين؟!
لقد حيّرت السوريين سلبية الشعوب تجاه ما يتعرضون له من فتك وتنكيل لا يقبلهما عقل أو ضمير
في هذه الأيام تكمل الثورة السورية عامها الثاني بمشهد يدمي القلوب من هول الخراب والدمار، وأعداد ما فتئت تزداد من الضحايا والجرحى والمعتقلين والمشرّدين، وبينما نجحت الثورات العربية الأخرى في إسقاط الاستبداد وانتقلت إلى مرحلة جديدة من مسيرتها نحو الحرية، لا يزال حلم السوريين يصطدم بعناد وعنف مفرطين، ويمرّ بمخاض مؤلم وعسير؛ مما يطرح السؤال: إلى أين تسير سوريا اليوم؟ وأي مستقبل ينتظرها؟!
عامان مرّا يفترض أن يكونا أكثر من كافيين كي تهتز ثقة النظام في جبروته وأوهامه عن الانتصار، وقد جرّب على مرأى من العالم كل أصناف الأسلحة والخطط الحربية ولم ينجح في سحق الاحتجاجات أو الحد من قدرة الثورة على التجدد، لكن ثمة ما يقارب اليقين بأن تغييراً لن يحصل في سياسة هذا النظام، وأن منطق العنف والمزيد من العنف هو لغته الوحيدة، وكأن لسان حاله يقول إذا لم ينفع الرصاص والمعتقلات تنفع المدافع والدبابات، وإن عجزت هذه الأخيرة عن إرهاب الناس وإخضاعهم فهناك الطائرات والصواريخ والتدمير المعمّم.
بعد عامين لا بدّ أن نعترف بأن الممارسات الموغلة في العنف والاستفزازات الطائفية، بدأت تعطي ثمارها المرَّة في عسكرة الثورة وتشويه وجهها الشعبي والمدني واستجرار ردود أفعال من الطبيعة ذاتها، وإظهار صورة طالما روّج النظام لها عن عصابات مسلحة وقوى سلفية تسعى لأسلمة المجتمع وفرض أجندتها عليه، ولا يغيّر هذه الحقيقة فشله في إحراز أية نتائج في الميدان العسكري، وهو ميدانه بامتياز، أو حتى في تعديل توازنات قوى ما فتئت تميل لصالح المعارضة، ولا فشله في استمالة الدول الغربية عبر مغازلة مخاوفها من انبعاث الحالة الجهادية في سوريا، وإن أسهم ذلك في تنامي التحفظ الأميركي والأوروبي على مدّ المعارضة بالسلاح بحجة احتمال وصوله إلى أيادي المتطرفين.
صحيح أن نظاماً، كالنظام السوري، مستعد للمساومة على كل أمر، ما عدا احتكاره للسلطة، ولن يتوانى في فعل أي شيء بما في ذلك جرّ البلاد إلى العنف والاحتراب للاستمرار في الحكم، لكن الصحيح أيضاً أن طريق العنف مسدود، وأن الجميع بات يدرك أن لا جدوى من التصعيد المتواتر للفتك والتدمير إلا توسيع مشهد الخراب والضحايا، وأنه ليس أكثر من مجرد وهم تصوّر إمكانية استعادة زمام المبادرة وكسر موازين القوى بعد التحولات التي جرت على الأرض وسيطرة المعارضة المسلحة على مناطق واسعة من البلاد، ولاسيما أن النظام بات يدرك أن الكيل فاض، وأنه استنفد كل المهل التي منحت لخياره الحربي مثلما استنزف عطاء حلفائه إلى أبعد مدى، وبات يقف وجهاً لوجه أمام مصالح لا تتعلق به بقدر ما تتعلق بحلفائه، وهو مكره على خدمتها في ظل ازدياد ضعفه العسكري والاقتصادي.
في المقابل، وبعد عامين، تبدو المعارضة السياسية كأنها لا تزال في رحلة البحث عن ذاتها ودورها، تنوء تحت ثقل نزاعات لا طائل منها، وتئن تحت عبء تقصيرها في إيجاد قنوات للتواصل الحيّ مع الحراك الثوري، ومده بأسباب الدعم السياسي والمادي، ولحسن الحظ يعوض هذا التقصير ما تشهده مرتكزات السلطة من تخلخل مستمر ومن انشقاقات لم تعد تقتصر على أفراد مهمّشين، بل شخصيات عاشت جل تاريخها جزءاً من تركيبة النظام، والأهم ما تحققه المعارضة الميدانية من تقدم على الأرض وسيطرتها على المزيد من المناطق.
وهنا لا بد أن نعترف، بعد هذا الزمن الطويل وفداحة ما قدم من دماء وتضحيات، بأنه لا يزال يعيب المعارضة بطؤها في تدارك سلبياتها واستحضار دور سياسي نشط يتفاعل مع المكوّن الشعبي للثورة، وتالياً مع المكون العسكري لتوحيد صفوفه وتصويب أدائه، ويعيبها أيضاً أن تظهر كرد فعل أو صدى لصوت الشارع، مقصرة في تقديم رؤية متكاملة لمسار الصراع وللخطط والآليات الكفيلة بتبديل المشهد والتوازنات القائمة بأقل كلفة، ولنقل مقصرة في تقديم إجابات شافية عن أسئلة ملحة تشغل بال الكثيرين بشأن سياق عملية التغيير وشروطها وما يكتنفها من منزلقات ضمن خصوصية المجتمع السوري بتعدديته وحساسية ارتباطاته الإقليمية والعالمية.
بلا شك لا نستطيع القول: إن العمل المعارض لم يحرز تقدماً ملموساً على صعيد إثارة قضايا الثورة السورية ومعاناتها في المحافل العربية والدولية، وإنه لم يبذل جهداً سياسياً وإعلامياً مسانداً للحراك الشعبي، ولاسيما في تفنيد أكاذيب الإعلام الرسمي وادعاءاته، لكن مثل هذا الأداء لا يكفي أمام استمرار القمع المعمم والأثمان الباهظة التي يتكبدها الناس بصورة يومية، ووضوح سلبية وتردد الحكومات العربية والغربية في دعم الثورة وتمكينها.
عامان مرا، وتنتظر قوى الثورة تنفيذ وعود أصدقائها لتتمكن من تحقيق أهدافها في التغيير، وها هي بعد أن صرفت وقتاً تراهن على ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، تجد أن الرياح تجري بغير ما تشتهي سفنها، وبات واضحاً للجميع أن واشنطن، ومن ورائها سياسات الحلفاء والأصدقاء، تسير على المنوال ذاته في عدم التورط وتفضيل الضغط المرن وإدارة الأمور عن بعد، والوعود بدعم المعارضة، وهي تبدو أكثر من يسعى للتهرب من واجباتها السياسية والإنسانية.
لقد حيّرت السوريين سلبية الشعوب تجاه ما يتعرضون له من فتك وتنكيل لا يقبلهما عقل أو ضمير، وحيّرتهم أكثر سياسات الحكومات التي تدّعي أنها تهتم بشأنهم؛ ذلك أنها أوحت بأنها لن تتركهم وحيدين تحت سطوة العنف، وأنها ستكون جزءاً من الحل كما حصل في الثورات العربية الأخرى، لكن الأمر بدا على العكس تماماً وظهرت مفارقة غريبة حين أصبح المجتمع الدولي ومؤسساته الأممية جزءاً من المشكلة وسبباً في استمرارها وتفاقمها من خلال القرارات المائعة لمجلس الأمن والتستر خلف الفيتو الروسي ورفع العتب بتكرار إرسال مبعوثين كان دورهم لا يتعدى منح النظام المهل كي يتوغل في العنف.
سنتان والوضع الاقتصادي يزداد تدهوراً، ولا نبالغ في القول إنه صار في الحضيض، فسياسة الفتك والتدمير العشوائي أفضت إلى انهيار القطاعات الإنتاجية والخدمية، وخرّبت حمم القذائف والآليات الثقيلة الأراضي الزراعية، كما أدى ضعف التسويق ومنافذ التصدير إلى انهيار الصناعة، فأغلقت مئات المصانع أبوابها أو قلصت إنتاجها، وسرحت الآلاف من عمالها.
ويبقى المدهش أن غالبية السوريين، على الرغم مما تكابده، لا تزال متحمسة للثورة وللتغيير وتتطلع للتخلص من الاستبداد أياً تكن الآلام؛ مما ينذر بسنة جديدة من الصراع الدامي وعمليات كرّ وفر تشمل حقلي الصراع السياسي والعسكري، يأمل المتفائلون أن تفضي إلى وضع الحالة السورية على نار حامية، عربياً ودولياً، وتنتظم في مسار خلاصي عبر قرار أممي، يبدأ بوقف العنف وصولاً إلى عملية تفاوضية لنقل السلطة ولقيادة مرحلة انتقالية تنتهي بإقرار دستور جديد وإجراء انتخابات عامة، فيما يخشى المتشائمون أن تؤدي رعونة السلطة وإصرارها على منطق الغلبة والعنف إلى الانزلاق نحو المجهول، وإلى المزيد من الضحايا والدمار والتشرد، وربما حرب أهلية قد تطول وتقود إلى تخندقات وانقسامات عميقة بين أبناء الوطن الواحد؛ مما يهدد بتفكيك البنية الوطنية وتقويض الدولة!
«إننا محكومون بالأمل» هي عبارة يتبادلها الناشطون وهم يستقبلون سنة ثالثة من عمر الثورة، ربما بقصد الاعتراف بأن مخاض الثورة سيكون صعباً جداً أمام عجز أممي مشين، وبأنه سيكتظ بالضحايا والآلام وبمعاناة لم يشهد شعب ثائر لها مثيلاً أمام آلة عسكرية مدججة بأفتك الأسلحة، وربما لأنهم بدؤوا يلمسون لدى أطياف المعارضة إحساساً عالياً بالمسؤولية، من خلال تواتر مبادراتها واجتهاداتها السياسية، أياً تكن التحفظات والانتقادات عليها، وربما لإظهار الثقة بجدوى استمرار ثورتهم وبأنه ليس أهم من توحيد صفوفها وتصويب أخطائها، ما يخفف من وطأة هذا المخاض ويعجل وصول الناس إلى حقوقهم وما يتطلعون إليه!
لاتوجد تعليقات