رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: فَتْحي بِن عَبدِ الله المَوْصِليِّ 5 ديسمبر، 2020 0 تعليق

الضَوابِطُ الشَّرعِيَةُ في الدِّفاعِ عَنِ النَبيِّ -صلى الله عليه وسلم – الحلقة الثالثة-

 


رابعاً: التفاضل بين أهل الإيمان يكون تارة بالهجرة، وتارة أخرى بالنّصرة.

للعبد من الفضل والشرف بحسب نصرته للنبي -  صلى الله عليه وسلم -؛ فالتفاوت في مضمار السباق بين المؤمنين يكون بالسبق إلى النُّصرة؛ ولا يتقدم عليها شيء إلا إذا اقترنت بها الهجرة؛ كما قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} (الأنفال: 72).

وقد جعلت النصوص الشرعية تكميل الإيمان وتحصيل المحاسن والفضائل بالسبق إلى الهجرة والنُّصرة معاً، قال -تعالى-: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ} (التوبة: 100).

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أَنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- قال يوم الفتح: «لا هجرة بعد الفتح،ولكن جِهادٌ ونيّةٌ، وإذا اْستُنْفِرْتُم فاْنِفِرُوا».

ومعنى: الاستنفار: الاستنجاد والاستنصار: أي إذا طلب منكم النُّصرة فأجيبوا وانفروا خارجين إلى الإعانة. ونفير القوم: جماعتهم الذين ينفرون في الأمر.

وعن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: «خيرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بين الهجرة والنصرة فاخترت النُّصرة».

قال أبو جعفر الطحاوي - بعد أن ساق الحديث بسنده: «وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو اختار لنفسه النُّصرة وترك الهجرة صار الناس جميعاً أنصاراً، ولم يبق أحد منهم مهاجراً، فلم يجعل نفسه من الأنصار لتبقى الهجرة ولتبقى النصرة جميعاً».

     وقد كان تفضيل بعض الصحابة على بعض على أساس النُّصرة، يقول ابن القيم في تفضيل خديجة -رضي الله عنها-: «واختلف في تفضيلها على عائشة -رضي الله عنها- على ثلاثة أقوال، ثالثها الوقف، وسألت شيخنا ابن تيمية -رحمه الله- فقال: اختص كل واحدة منها بخاصة، فخديجة كان تأثيرها في أول الإسلام، وكانت تسلي رسول الله وتثبته وتسكنه وتبذل دونه مالها، فأدركت عزة الإسلام، واحتملت الأذى في الله وفي رسوله، وكانت نصرتها للرسول في أعظم أوقات الحاجة، فلها من النصرة والبذل ما ليس لغيرها، وعائشة -رضي الله عنها- تأثيرها في آخر الإسلام، فلها من التفقه في الدين وتبليغه إلى الأمة وانتفاع نبيها بما أدت إليهم من العلم ما ليس لغيرها هذا معنى كلامه».

     وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكافئ من نصره ولو كان كافراً، كما جاء في السيرة؛ فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم- لما انصرف عن أهل الطائف ولم يجيبوه إلى ما دعاهم إليه من تصديقه، بعث إلى المطعم بن عدي فأجابه على ذلك، ثم تسلح المطعم وأهل بيته وخرجوا حتى أتوا المسجد، ثم بعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن ادخل؛ فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فطاف بالبيت وصلى عنده، ثم انصرف إلى منزله.

وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم- هذا الفعل كما أخرج البخاري عن محمد بن جبير عن أبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال في أسارى بدر: «لو كان المطعم بن عدي حيًّا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له».

وقد دلّ هذا الحديث على ثلاث فوائد:

- أولها: جواز الدخول في جوار الكافر عند الحاجة.

- الثانية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان يكافئ المحسن إليه بإحسانه، وإن كان كافرًا.

- الفائدة الثالثة: أن نصرة النبي - صلى الله عليه وسلم- من الإحسان الذي يحفظ للكافر ويكافأ عليه.

      ومن هذا النوع من الإحسان أيضًا تخفيف العذاب الأُخروي على الكافر بسبب نصرته للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومعونته للدين؛ كما جاء في حديث العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما أغنيت عن عمك؛ فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار».

خامساً: الانصراف عن نصرة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع القدرة التامة شعبة من النفاق.

     الدفاع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ونصرة ما جاء به من الحقّ علامة على صدق الإيمان والبراءة من النفاق، ودلالة على المحبة الصادقة؛ فليس بمحب على الحقيقة من يتمكن من نصرة محبوبه ثم لا ينصره، ولا يتأذى مما يتأذى منه؛ لهذا كانت نصرة الله ورسوله شرطاً في الإيمان وطريقاً لبلوغ الصديقية، كما قال -تعالى-: {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحشر:8).

     والصديق لا يكون متحقّقا بالصديقية إلا بالنُّصرة والمدافعة؛ لهذا كان السابقون الأولون عريقين في الصديقية، وقاموا بأعبائها، والتزموا بلوازمها؛ فنصروا نبيهم بكل ما يمكن شرعاً أن يبذل للمحبوب المتبوع، فهذا صديق الأمة أبو بكر - رضي الله عنه - قد كمّل مرتبة الصديقية بالنُّصرة والهجرة، كما في حديث عروة بن الزبير قال: «سألت ابن عمرو بن العاص: أخبرني بأشدّ شيء صنعه المشركون بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، قال بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ} (غافر:28) الآية».

     وقد كانت صحبة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - للنبي - صلى الله عليه وسلم- صحبة نصرة وهجرة معاً من أول الدعوة إلى آخرها؛ كما قال -تعالى-: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة:40).

     وما نال الأنصار من الفضل والسبق والبراءة من النفاق إلا بصدق محبتهم لنبيهم، وقوة نصرتهم له بالمال والنفس والعيال والديار؛ فقد بذلوا كل نفيس في سبيل نصرته وتعزيره؛ لذلك جاء عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال في الأنصار: «لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منا فق من أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله».

     قال شيخ الإسلام ابن تيمية - شارحا هذا الحديث-: « وإنما خصّ الأنصار -والله أعلم- لأنهم هم الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبل المهاجرين، وآووا رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، ونصروه، ومنعوه، وبذلوا في إقامة الدين النفوس والأموال، وعادوا الأحمر والأسود من أجله، وآووا المهاجرين، وواسوهم في الأموال، وكان المهاجرون إذ ذاك قليلاً غرباء فقراء مستضعفين، ومن عرف السيرة وأيام رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وما قاموا به من الأمر ثم كان مؤمنا يحب الله ورسوله لم يملك إلا أن يحبهم، كما أن المنافق لا يملك إلا أن يبغضهم، وأراد بذلك والله أعلم أن يعرف الناس قدر الأنصار؛ لعلمه بأن الناس يكثرون والأنصار يقلون، وأن الأمر سيكون في المهاجرين، فمن شارك الأنصار في نصر الله ورسوله بما أمكنه فهو شريكهم في الحقيقة كما قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللهِ} (الصَّف: 14)؛ فبغض من نصر الله ورسوله من أصحابه نفاق».

     أما وقد تقرر أن نصرة النبي - صلى الله عليه وسلم - هي من موجب محبته ومقتضاها؛ فإن الانصراف عن نصرته مع القدرة التامة يعدّ شعبة من النفاق؛ إذ لو ثبتت المحبة واستقرت في القلب فلا بد من النّصرة ولو بالقلب عند العجز عن نصرته بالقول والفعل، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -أيضا-: « فمن لم يكن فيه داعٍ إلى الجهاد فلم يأت بالمحبة الواجبة قطعاً كان فيه نفاق، كما قال -تعالى-: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15)، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات علي شعبة من نفاق»، وكذلك جمع بينهما في قوله -تعالى-: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ، الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ، يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ، خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (التوبة: 19-22)؛ فالجهاد في سبيل الله -تعالى- من الجهد وهي المغالبة في سبيل الله بكمال القدرة والطاقة فيتضمن شيئين:

- أحدهما: استفراغ الوسع والطاقة.

- والثاني: أن يكون ذلك في تحصيل محبوبات الله ودفع مكروهاته.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك