الضوابط المتعلقة بصيغة الوقف ( ينعقدُ الوقْف بكلّ ما دلّ عليه)
باب الوقف من الأبواب المهمة التي من الأهميّة تقرير ضوابطه؛ ذلك أنّ عامّة أحكام الوقف اجتهاديّة؛ فلا مناص من الانطلاق في تقريرها من أصول الشريعة العامّة، الضابطة لباب المصالح والمنافع على وجه الخصوص، ثمّ من القواعد الفقهيّة الكلّيّة، ثم يترجم ذلك كله على هيئة ضوابط خاصّة في باب الوقف، وهو ما سنتناوله في هذه السلسلة المباركة، واليوم مع الضوابط المتعلقة بصيغة الوقف.
الضابط الأول من هذه الضوابط هو (تنعقد العقود بكلّ ما دلّ على مقصودها من قول أو فعل)، و يتفرّع هذا الضابط عن القاعدة الشرعيّة الكبيرة المتفق عليها: (الأمور بمقاصدها)، وهي جانبها التطبيقيّ في مجال العقود، فكان من الطبيعيّ أن يتولّد عنها ضابطٌ خاصٌّ بالوقْف، لذلك يُعدُّ البحث في تطبيق هذه القاعدة على باب الوقف بحثاً تكميليًّا مهمًّا للقاعدة السابقة، ويرتبط به ارتباطاً وثيقاً وأساسيًّا.
الفرق التطبيقيّ
إلّا أنّ الفرق التطبيقيّ بينهما هو أنّ الضابط السابق مختصٌّ بتفسير ألفاظ الواقفين في حجج الوقف ووثائقه، وما تتضمّنه من قيود واشتراطات، وهذا الضابط يختصّ بتأثير العرف والعادة على حكم انعقاد الوقف ابتداءً، وما يقتضيانه من حمل تصرّفات الواقف التي ينشئها بإرادته على ما يقتضي تصحيح انعقاد الوقف، أو عدم ذلك، وإن كان كلاهما منطلقاً من اعتبار العرف والعادة وتحكيمهما، واعتبار الألفاظ والأفعال والإشارات وعموم التصرُّفات قائمةً مقام الإفصاح عن الإرادة، إذا شهد العُرف أو الشّرع بصلاحيّتها لذلك، أو تعذّر الإفصاح أصلاً، فنُزّلت دلالةٌ أخرى في منزلته اضطراراً.
قال برهان الدّين الطرابلسي: «يتوقّف انعقادُ الوقف على صدور ركنه من أهله مضافاً إلى محلٍّ قابلٍ له...فرُكْنه: لفظُ الوقف، وما في معناه».
الألفاظ نوعان
وقال العلّامة مصطفى الزّرقا: «الألفاظ التي ينعقدُ بها الوقْف هي كلّ لفظ يدلّ على معنى حبس رقبة المال عن الامتلاك، وتخصيص ثمرته ومنفعته بجهة من الجهات، وهذه الألفاظ نوعان:
- الأوّل: الصريح، وهو ما اشتهر استعماله في معنى الوقف المشروح، فينصرف إلى معنى الوقف وينعقد به بمجرد ذكره، وهو لفظان: الحبس والوقف، واللفظ الأوّل أقدم استعمالاً...ومن الصريح في رأي بعضهم: لفظ التسبيل.
- والثاني: الكناية، وهو ما كان يحتمل معنى الوقف وغيره، كمعنى النّذر أو الصدقة بعين المال، دون حبسه، وإنفاق ثمرته، وذلك ألفاظ كثيرة كالتصدّق، وجعل المال للفقراء، أو في سبيل الله، ونحو ذلك من الألفاظ المحتملة.
وحكم الكناية أن الوقف لا ينعقد بها إلّا إذا قُرنت بقرينة تفيد بها معناه، أو إذا نوى المتكلّم بها، وأراد معنى الوقف، فلو قال: أرضي هذه صدقة، أو تصدّقت بها على المساكين، لا تكون وقْفاً إلّا إذا صرّح بأنّه إنّما قصد الوقف، وإلّا كان ذلك نذراً، يوجب التصدُّق بعينها أو بقيمتها... أما لو قال: صدقة جارية أو مؤبّدة على المساكين، كان وقفاً بقرينة ذكر الجريان أو التأبيد... ولو قال: جعلت داري هذه للسبيل، فإذا تعارف النّاس به الوقف على الفقراء كان وقفاً، وإلّا سُئِل، فإن قال: أردت الوقف صار وقفاً أيضاً لأنّه محتملٌ لفظَ».
ألفاظُ الوقف ستة
وقال ابن قدامة: فصلٌ: وألفاظُ الوقف ستة، ثلاثة صريحة، وثلاثة كناية.
فالصريحة: وقفت، وحبست، وسبّلت، متى أتى بواحدة من هذه الثلاث، صار وقفاً من غير انضمام أمر زائد؛ لأن هذه الألفاظ ثبت لها عرف الاستعمال بين الناس، وانضمّ إلى ذلك عرف الشرع، بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر: «إن شئت حبّست أصلها، وسبّلت ثمرتها»، فصارت هذه الألفاظ في الوقف كلفظ التطليق في الطلاق.
وأما الكناية فهي: تصدّقت، وحرّمت، وأبّدت، فليست صريحة؛ لأن لفظة الصدقة والتحريم مشتركة، فإنّ الصدقة تستعمل في الزكاة والهبات، والتحريم يستعمل في الظهار والأيْمان، ويكون تحريماً على نفسه وعلى غيره، والتأبيد يحتمل تأبيد التحريم، وتأبيد الوقف، ولم يثبت لهذه الألفاظ عرف الاستعمال، فلا يحصل الوقف بمجردها، ككنايات الطلاق فيه، فإن انضم إليها أحد ثلاثة أشياء، حصل الوقف بها وهي:
- الأول: أنْ ينضم إليها لفظة أخرى تخلّصها من الألفاظ الخمسة، فيقول: صدقة موقوفة، أو محبّسة، أو مسبّلة، أو محرمة، أو مؤبّدة، أو يقول: هذه محرّمة موقوفة، أو محبّسة، أو مسبّلة، أو مؤبّدة.
- الثاني: أنْ يصفها بصفات الوقف، فيقول: صدقة لا تباع، ولا توهب، ولا تورث؛ لأن هذه القرينة تزيل الاشتراك، الثالث: أن ينوي الوقف، فيكون على ما نوى، إلا أن النية تجعله وقفاً في الباطن دون الظاهر، لعدم الاطلاع على ما في الضمائر، فإن اعترف بما نواه، لزم في الحكم؛ لظهوره، وإن قال: ما أردت الوقف، فالقول قوله، لأنه أعلم بما نوى».
تحرير حسن لابن قدامة
وقد زاد الموفّق ابن قدامة على بيان ما ينعقد به الوقف من الألفاظ الصريحة والكنائيّة تحريراً حسناً جدًّا لمذهب الإمام أحمد في صحّة انعقاد الوقف بالفعل المحتفّ بالقرائن أيضاً، ننقله ليكتمل به تصوُّر انطباق هذه القاعدة على باب الوقف بالصيغة التي ذكرناها.
قال -رحمه الله-: «فصلٌ: وظاهر مذهب أحمد أنّ الوقف يحصل بالفعل مع القرائن الدالّة عليه، مثل أن يبني مسجدا، ويأذن للناس في الصلاة فيه، أو مقبرة، ويأذن في الدفن فيها، أو سقاية، ويأذن في دخولها، فإنه قال -في رواية أبي داود، وأبي طالب، في من أدخل بيتاً في المسجد وأذّن فيه-: لم يرجع فيه. وكذلك إذا اتخذ المقابر وأَذِن للناس، والسقاية، فليس له الرجوع، وهذا قول أبي حنيفة، وذكر القاضي فيه رواية أخرى، أنه لا يصير وقفاً إلا بالقول، وهذا مذهب الشافعي».
وفي كتاب الخصّاف: «قلت: أرأيتَ إذا جعل الرّجل دارَه مسجداً أو بناها كما تُبنى المساجد، وأذن للنّاس في الصلاة فيها، وأشهدَ على ذلك أنّه قد جعله مسجداً لله؟ قال: فهو جائز، وقال أبو حنيفة: إذا أَذِنَ للنّاس في الصلاة فيه فقد صار مسجداً، وقال غيره: إذا أشهدَ عليه أنّه قد جعلها مسجداً صار مسجداً وإن لم يُصَلَّ فيه.
قلت: أرأيت إذا بنى الرجل الخان وأشهد على نفسه أنّه قد جعله للسّابلة، ينزله النّاس ومن مرّ به من المسافرين؟ قال: هذا جائزٌ، ويكون خاناً للسبيل، وإن حدثَ بالذي بناه حدث الموتِ لم يكن هذا الخان ميراثاً».
انعقاد الوقف بحكم الضرورة
بل قال الأستاذ الزّرقا -رحمه الله-: «وقد يعد الوقف منعقداً بحكم الضرورة، كما إذا أوصى إنسان بغلّة داره للمساكين أبداً، أو لفلان ثمّ من بعده للمساكين، فإنّ الدار تصير وقفاً للضّرورة؛ لأنّ استحقاق المساكين للغلّة أبداً -ولو باسم الوصيّة- هو في معنى الوقف، فيكون كقوله: إذا متُّ فقد وقفتُ داري على كذا، فيعد من الوقف المعلّق بالموت، فينفذ من ثلث المال، كما في الوصيّة».
والاضطرار هنا إنّما هو اضطرارٌ لغويٌّ؛ لأنّ قول الإنسان: «أوصيتُ» أو «أوصى» صريحٌ في الوصيّة، وهي غير الوقف بالاتفاق، إلا أنّه لمّا استعمل هذا اللفظ الصريح في غير الوقف في سياق لا يحتمل إلا الوقف، حُمل اللفظ على ما يستحقّه من المعنى، وإجراؤُه في ثلث المال لأنّه علّقه بالموت، فهذه ذروة إعمال المعنى الذي يلوح من كلام المتكلّم على حساب ألفاظه الظاهرة.
إذا تقرّر انعقادُ الوقف باللّفظ الصريح، وباللّفظ الكنائيّ مع القرينة القوليّة أو الحاليّة، وبالفعل، بل وبالاضطرار إذا لم يمكن تصحيح كلام المكلَّف إلّا بحمله على الوقف، فقد صحّ قولُنا تفريعاً على القاعدة: (ينعقدُ الوقْف بكلّ ما دلّ عليه).
معنى الضابط
ويكون معنى الضابط: كلُّ تصرُّفٍ صدر عن المكلَّف من قولٍ أو فعلٍ، وكان منصرفاً إلى الوقف من غير احتمالٍ، سواءً كان انصرافُه لصراحة التصرّف في الدّلالة، أو ما احتفّ به من قرائن قوليّة أو فعليّة أو حاليّة، فإنّ الوقف ينعقد به.
وفي «ترتيب الصنوف»: رُكْن الوقف هو: كلُّ قولٍ يدلُّ -بحسب صيغته- على إنشاء الوقف.
التطبيقات
(1) لو قال: إنّ أرضي هذه من أجل السبيل، دون أن يزيد على ذلك، صارت أرضُه وقفاً إذا ما عنت كلمة (السبيل) الوقف المؤبّد في زمن الواقف وعرف بلده، والعكس بالعكس.
(2) لو قال: غلّة حانوتي للمساكين أبداً، فهو وقف صحيحٌ على المساكين، مع أنّه لم يأت بلفظ الوقف ولا الحبس، وذلك لإعمال المعنى واضح الدّلالة على أنّه يريد الوقف.
(3) لو أوصى بأن يُشترى من غلّة بستانه كلّ شهرٍ خبزاً للفقراء أبداً، انعقد ذلك وقفاً في ثلث ماله بحكم الضرورة، وتعيّن أن يُشترى بثلث الغلّة خبزاً للفقراء.
(4) ينعقد الوقف بإشارة الأخرس، بشرط أن تكون مفهمةً لمُراده ومعهودةً منه.
لاتوجد تعليقات