رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 7 ديسمبر، 2020 0 تعليق

الشريعة صالحة مُصلحة للزمان والمكان والوحي هو إعلام الأنبياء بمراد الله -سبحانه

 


 

 

 

 

 

قال الشيخ د.إبراهيم بن محمد صديق العماري -رحمه الله: «بيَّن القرآن الكريم أن الشريعة صالحة مصلحة للزمان والمكان، وأن الوحي هو إعلام الأنبياء بمراد الله -سبحانه، وعما يحب أن يكون عليه عباده من خير في هذه الحياة الدنيا، كما قال -تعالى-: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (البقرة: 185)، وبيَّن -سبحانه- أن اتباع مراد الله هو طريق السلامة والنجاة، ولا يمكن اجتماعه مع اتباع غيره مما تمليه الأهواء والرغبات، قال -سبحانه-: {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلًا عَظِيمًا} (النساء: 27).»

 

والأحكام النهائية للشرع هي التي قرَّرها الوحي وبلَّغها النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته، قال -سبحانه-: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (المائدة: 3).

 

أحكام لا تقبل التغيير والتبديل

     وهذه الأحكام النهائية لا تقبل التغيير والتبديل، فهي أحكام شاملة لشؤون الحياة جميعها، ويراد للمسلم أن يمتثلها ويتَّبعها: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} (الأنعام: 115)، قال ابن كثير -رحمه الله-: أي: صدقا في الأخبار، وعدلا في الأحكام، فكله حقّ وصدق وعدل وهدى، ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء، كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها، كما قيل في الشعر: إن أعذبه أكذبُه، وتجد القصيدةَ الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر، أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع، أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئًا إلا قدرة المتكلم المعبر على التعبير على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح، ثم تجد له فيها بيتًا أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد، وسائرها هذر لا طائلَ تحته، وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلا وإجمالا، ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير، فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة، سواء كانت مبسوطة أم وجيزة، وسواء تكررت أم لا، وكلما تكرر حلا وعلا، لا يخلق عن كثرة الردّ، ولا يملّ منه العلماء، وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصمّ الراسيات، فما ظنُّك بالقلوب الفاهمات، وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان، ويشوِّق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن.

 

خصائص الشريعة

     وقد تكلم الإمام الشاطبي -رحمه الله- عن خصائص الشريعة، فذكر أكبر خاصية لها وهي: (العموم والاطِّراد)؛ فلذلك جرت الأحكام الشرعية في أفعال المكلفين على الإطلاق، وإن كانت آحادها الخاصة لا تتناهى؛ فلا عمل يفرض ولا حركة ولا سكون يدَّعى إلا والشريعة عليه حاكمة إفرادًا وتركيبا، وهو معنى كونها عامة، وإن فرض في نصوصها أو معقولها خصوص ما.

 

كمال الشريعة

     ومن هنا انطلَق العلماء من هذه الأصول والكليات، فاعتقدوا كمال الشريعة، وسعوا إلى إصلاح الواقع بها؛ جمعًا بين الممكن والمطلوب، فلم تأت نازلة إلا وأخضعوها للحكم الشرعي؛ ليقينهم أنه يشملها بأحد أقسامه، إما الإباحة أو الندب أو الكراهة أو الوجوب أو الحرمة، ولا تخلو نازلة مطلقًا من حكم لله -سبحانه-، وهذا الحكم موصوف بالإتقان والإحكام والأفضلية.

 

فكرة أخرى

     وفي مقابل هذه الفكرة ظهرت فكرة أخرى مزدَرية لتفاصيل الوحي، معتبرة لكلياته في أحسن الأحوال دونَ جزئياته، فدعت للتخفيف من خطاب التكليف، ومن إرجاع الأمور إلى الشرع؛ لما في ذلك من حكم للواقع بمنطق التراث، والرجوع بالأمة إلى الوراء، وازدراء العقل، فلم يكن من بدّ إلا التخلّص من الثقل الشرعي في الأحكام، وإحلال الواقع ومنطق العقل محلّ ذلك، وقَصْرِ الشريعة على أجزاء ثانوية من حياة الإنسان، فصرَّحوا بتقليدية بحوث الثقافة الدينية، وأهمية تجاوزها؛ من أجل مسايرة المعرفة الحديثة، وما تمليه من وقائع وإنجازات.

 

تفكيك الأصول

وهذا التوجُّه جعل الاشتغال الحداثي منحصرًا في تفكيك الأصول لا في تأصيلها؛ لأن اعتقاد المتديِّن في نظرهم أنَّ أصوله مقدَّسةٌ وإلهية وتعظيمُه لذهنيَّته يؤدِّي بطبيعة الحال إلى اصطدامه بالواقع؛ لأن الأصول ثابتة والواقع متغيِّر متطوِّر، ومن ثم فإن الاصطدام مقطوع به، وبأنه يكون مروّعًا في حالة وقوعه.

     ويُبعد محمد أركون النُّجعةَ ويصرِّح بالمكنون فيقول: إن الإسلام المعاصر يعرف أن قيَمه الأخلاقية والفقهيَّة القانونية التي كان يرتكز عليها النظام السياسي والاجتماعي للدولة الإسلامية التقليدية قد أصبحت مهاجمة ومرفوضة في كل مكان؛ وذلك لأنها تبدو عتيقة وغير ملائمة لهذا العصر، وهذا تصريح بتخلُّف الإسلام كدين عن الواقع، وليس بتخلُّف المسلمين، وقد أعقب هذا الكلام بكلامٍ مفاده مطالبة المسلمين بالاستسلام للواقع والتخلِّي عن الدين بوصفه نسقًا تاريخيًّا يحصر المسلم في قالب معين، لا يلائم وقته ولا عصره، وقد صَرَّفَ الحداثيّون هذه العبارة في كتبهم، وتواتروا عليها معنويًّا، حتى وصل الأمر بهم إلى وصف الشريعة بالبشرية المطلقة، وأن نسبتها للإله افتراءٌ تولى كبره الإمام الشافعي -رحمه الله-، وقد سعَوا من خلال هذه النظرية إلى توسيع دائرة المتغيّر ليشمل الأحكام الشرعية جميعها التي يفترض هؤلاء مصادمتها للواقع أو للثقافة التي تشبَّعوا بها.

 

النظر في الواقع الاجتماعي

     وفهم الشريعة على هذا النَّحو لا يتأتَّى إلا بالنظر في الواقع الاجتماعي الذي أُنتجت التشريعات فيه واعتباره، وهذا الاعتبار ليس اعتبارَ تفسير، بل هو اعتبار إلغاءٍ واستدراك؛ لأن القرآن في النهاية أُنتِجت تَشريعاتُه لمجتمعاتٍ بدويَّة لا تواجه تحديات كثيرة، وعليه فإن فهم تشريعاته في هذا السياق يوجب ردَّها وتجاوزها، لا الاحتفاظ بها والتمسك بها.

 

الاستعلاء على الثقافة الإسلامية

     ولا يخفى على القارئ أن هذا النظرَ الذي يسوده الاستعلاء على الثقافة الإسلامية والازدراء للوحي لم يكن نتاج أفكار أصحابه، ولا هو نابع من رؤية موضوعية، وإنما هو استسلام لواقع فرضته ثقافة مادية متغلِّبة وعسكرية مستعمرة، ومن هنا لم تكن مشاريع الحداثة العلمية مشاريع ممانعة، بل كانت مشاريع استسلام وخضوع وذوبانٍ، وهي لا تضيف بقدر ما تحذف، ولا ترفع الرأس أمام الخصومة الثقافية بقدر ما تُطأطئه وتركع إجلالا وتعظيمًا للمناهج الحديثة، وهذا الاستسلام والرضوخ أدَّى بأصحابه إلى نبذ الوحي وعدم اعتقاد صلاحيته واستحالة مسايرته للواقع، فضلا عن إصلاحه وتغييره، وحين نقارن بين من تبنَّى إصلاح الواقع بالشريعة وبين من استسلم له نجد البون شاسعًا، فها هو ذا الإسلام بسبب تبني المسلمين صار محطَّ اهتمام من جميع البشرية، وها هي ذي حلوله الاجتماعية والاقتصادية تتبناها الدّول، ولو لم تأخذ بكامله، بينما الفكر الخانع لم يقدِّم حلولا، وإنما تنازل عن قضايا أخطأ بخطأ الآخرين فيها تقليدًا، فدفع ثمن التقليد لهم في الواقع ولم يربح ذاته.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك