
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن- خالِص المؤمن وخالِق الفاجر
للمسلم أخلاق كريمة، وآداب جميلة، تتجلى في تصرفاته وتعامله مع غيره؛ سواء أكان غيرة من المؤمنين الصالحين، أم من الفاسقين العاصين، أم كان من غير المسلمين، فالمسلم يلتزم حدود ما أنزل الله -تعالى- على رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ من العلم والعدل والرحمة الذي أرشدت إليه النصوص الشرعية، وأكدته القواعد الدينية.
وقد نقل الشَّعْبِيِّ عن صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ أنه قال لابْنِ يَزِيدَ: «خَصْلَتَانِ أُوصِيكَ بِهِمَا فَاحْفَظْهُمَا مِنِّي، خَالِصِ الْمُؤْمِنِينَ، وَخَالِقِ الْفَاجِرَ، فَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرْضَى مِنْكَ بِالْخُلُقِ الْحَسَنِ، وَأَنَّهُ يَحَقُّ عَلَيْنَا أَنْ نُخَالِصَ الْمُؤْمِنَ».
فهذه الحكمة الموجزة دلت على الموقف المطلوب من المسلم حين يخالط ويتعامل مع صنفين من الناس؛ وهما المسلم الصالح، والآخر المسلم الفاجر.
أما المسلم الصالح فقد أمر الشرع بالنصح والإخلاص له، فعن تميم بن أوس الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة ثلاثا قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» رواه مسلم.
يبين النووي كيفية النصيحة لعامة المسلمين وذلك بإرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم، وكف الأذى عنهم، فيعلمهم ما يجهلونه من دينهم، ويعينهم عليه بالقول والفعل، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ودفع المضار عنهم وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص، والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم، وتخولهم بالموعظة الحسنة، وترك غشهم وحسدهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير، ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه، والذب عن أموالهم وأعراضهم، وغير ذلك من أحوالهم بالقول والفعل، وحثهم على التخلق بجميع ما ذكرناه من أنواع النصيحة، وتنشيط همهم إلى الطاعات.
وقال الشيخ ابن سعدي: «وأما النصيحة لعامة المسلمين فبأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، ويسعى في ذلك بحسب الإمكان، فإن من أحب شيئاً سعى له، واجتهد في تحقيقه وتكميله».
أما الصنف الآخر ـ وهو المسلم الفاجر ـ الذي قد يبتلى به الإنسان في عمل أو جوار أو غير ذلك من أحوال الدنيا، ويتأذى من سوء خلقه أو سلاطة لسانه، فالمطلوب من المسلم أن يتحلى بالمداراة وحسن الخلق، وأن يقف حيث أوقفه الشرع، فلا يقبل مجاراة الآخرين في أخلاقهم وسوء أعمالهم.
فعن عروة بن الزبير أنَّ عائشة أخبرته أنَّه استأذن على النَّبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقالصلى الله عليه وسلم : «ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة». فلما دخل ألان له الكلام. فقلت له: يا رسول الله، قلتَ ما قلتَ، ثم ألنتَ له في القول. فقال: «أي عائشة، إنَّ شرَّ الناس منزلةً عند الله من تركه - أو ودعه - الناس اتقاء فحشه» رواه البخاري ومسلم.
قال النووي: «وفي هذا الحديث مداراة من يتقى فحشه، وجواز غيبة الفاسق المعلن فسقه، ومن يحتاج الناس إلى التحذير منه، ولم يمدحه النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا ذكر أنه أثنى عليه في وجهه، ولا في قفاه، إنما تألفه بشيء من الدنيا مع لين الكلام».
والمداراة مصدر دارى، أي: لاطفه ولاينه، ومداراة الناس: أي ملاينتهم وحسن صحبتهم واحتمالهم؛ لئلا ينفروا عنك .
قال ابن بطال: «المدَاراة: خفض الجناح للناس، ولين الكلام وترك الإغلاظ لهم في القول»، وقال ابن حجر: «المراد به الدفع برفق»، وقال المناوي: «المدَاراة: الملاينة والملاطفة».
وقال ابن القيم مبينا الفرق بين المداراة المحمودة والمداهنة المذمومة: «المداراة صفة مدح، والمداهنة صفة ذم، والفرق بينهما أن المداري يتلطف بصاحبه حتى يستخرج منه الحق أو يرده عن الباطل، وأما المداهن فهو يتلطف به ليقره على باطله، ويتركه على هواه. فالمداراة لأهل الإيمان، والمداهنة لأهل النفاق».
وقال ابن بطال: «المداراة من أخلاق المؤمنين؛ وهي خفض الجناح للناس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة، وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط؛ لأن المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة، والفرق أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه؛ حيث لا يظهر ما هو فيه والإنكار عليه بلطف القول والفعل ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك» .
وتأمل أدب إبراهيم عليه السلام مع أبيه الكافر كما قال سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطًا سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا}(مريم: 41 - 45).
قال الشيخ ابن سعدي: «وفي هذا من لطف الخطاب ولينه ما لا يخفى، فإنه لم يقل: يا أبت أنا عالم، وأنت جاهل. أو:ليس عندك من العلم شيء، وإنما أتى بصيغة تقتضي أنَّ عندي وعندك علمًا، وأنَّ الذي وصل إليَّ لم يصل إليك ولم يأتك، فينبغي لك أن تتبع الحجة وتنقاد لها».
وانظر توجيه الله -تعالى- لموسى وهارون عليهما السلام قال سبحانه: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولاَ لَهُ قَوْلا لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}(طه: 43 - 44).
قال ابن كثير: «هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أُمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين».
قال الحسن البصري: «كانوا يقولون:المدَاراة نصف العقل، وأنا أقول هي العقل كلُّه». وقال: «المؤمن يداري ولا يماري، ينشر حكمة الله، فإن قبلت حمد الله، وإن ردت حمد الله». وقال محمد بن السماك: «من عرف الناس داراهم، ومن جهلهم ماراهم، ورأس المدَاراة ترك المماراة». فالمسلم على بصيرة من دينه، وحكمة في تصرفه، يتخذ الموقف المناسب الذي يحقق المصالح ويدرأ المفاسد وفق الضوابط الشرعية، فعليه أن يكون حليما رفيقا في موضع الرفق، ويكون حازما صريحا في موقف الحزم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل الرفق والحزم كلا في موضعه، ولم يكن صلى الله عليه وسلم مداهنا، ولا منفرا، بل كان حكيما رحيما صلى الله عليه وسلم .
لاتوجد تعليقات