رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 26 يناير، 2015 0 تعليق

الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن- الدنيـا سجـن المؤمن وجنــة الكافـر

كانت الدنيا على مافيها من الهموم والغموم كانت بالنسبة للكافر جنة؛ لأنه ينتقل منها إلى عذاب النار

 

قد يتوهم بعض الناس أن المسلم ينبغي أن يكون في هم وغم وحزن، لا يفرح ولا يضحك لهذا الحديث، الذي يقرر أن الدنيا سجن للمؤمن، والسجين دائم الحزن، كثير الغم لفقده حريته، وحرمانه من اللذات التي يتمتع بها الأحرار، وقد يظن أن هذا الحديث معارض لقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ  قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (الأعراف:32)، ولقوله سبحانه: {ولا تنس نصيبك من الدنيا}.

وهذا الحديث صحيح أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، ومعناه على خلاف هذا المعنى المتوهم كما بينه فقهاء الإسلام وشراح الحديث، ولهم في ذلك مسلكان:

- الأول: من قرر أن الحديث ليس على ظاهره بل هو من قبيل التشبيه، كما قال المباركفوري مبينا أن الحديث في سياق التشبيه، فالدنيا: «كَالسِّجْن للمؤمن في جَنْب ما أُعِدّ له في الاخرة مِن الثواب والنعيم المقيم، وكَالْجَنَّة للكافر في جَنْب ما أُعِدّ له في الاخرة مِن العقوبة والعذاب الأليم ». فهو من التشبيه البليغ الذي حذفت أداته.

- الثاني: من حمل الحديث على ظاهره: «فالدنيا بالنسبة للمؤمن كالسجن لما فيها من التكاليف، وتوالي المحن، ومكابدة الهموم والغموم، ثم هو في سجن لا يدري بماذا يختم له، والكافر منفك عن تلك التكاليف، آمن من تلك المخاوف، مقبل على لذته، منهمك في شهوته فهو كالأنعام، وعن قريب يستيقظ من هذه الأحلام، ويحصل في السجن الذي لا يرام». قاله محمد بن علان الصديقي في دليل الفالحين.

     ويؤكد الإمام النووي هذا المعنى بقوله: «معناه أن كل مؤمن مسجون ممنوع في الدنيا من الشهوات المحرمة والمكروهة، مكلف بفعل الطاعات الشاقة، فإذا مات استراح من هذا، وانقلب إلى ما أعد الله تعالى له من النعيم الدائم، والراحة الخالصة من النقصان، وأما الكافر فإنما له من ذلك ما حصل في الدنيا مع قلته وتكديره بالمنغصات، فإذا مات صار إلى العذاب الدائم، وشقاء الأبد».

     وقال الشيخ ابن عثيمين: «معنى هذا الحديث: أن الدنيا مهما عظم نعيمها، وطابت أيامها، وزهت مساكنها، فإنها للمؤمن بمنزلة السجن؛ لأن المؤمن يتطلع إلى نعيم أفضل وأكمل وأعلى، وأما بالنسبة للكافر فإنها جنته؛ لأنه ينعم فيها، وينسى الآخرة، ويكون كما قال الله تعالى فيهم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} (محمد:12)، والكافر إذا مات لم يجد أمامه إلا النار والعياذ بالله، فكانت له النار، ولهذا كانت الدنيا على ما فيها من التمغيص والكدر والهموم والغموم كانت بالنسبة للكافر جنة؛ لأنه ينتقل منها إلى عذاب النار والعياذ بالله، فالنار بالنسبة له بمنزلة الجنة، ويذكر عن ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- صاحب فتح الباري وكان هو قاضي قضاة مصر في وقته كان يمر بالسوق على العربة في موكب، فاستوقفه ذات يوم رجل من اليهود وقال له: إن نبيكم يقول: «إن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر»، وكيف ذلك وأنت في هذا الترف والاحتفاء؟ وهو يعني نفسه اليهودي في غاية ما يكون من الفقر والذل فكيف ذلك؟ فقال له ابن حجر رحمه الله: «أنا وإن كنت كما ترى من الاحتفاء والخدم فهو بالنسبة لي بما يحصل للمؤمن من نعيم الجنة كالسجن، وأنت بما أنت فيه من هذا الفقر والذل بالنسبة لما يلقاه الكافر في النار بمنزلة الجنة»، فأعجب اليهودي هذا الكلام وشهد شهادة الحق قال: أشهد أن لا إله ألا الله وأشهد أن محمداً رسول الله».

ويوضح الفُضَيْل بن عِيَاض حقيقة السجن المذكور في الحديث فيقول: «هِيَ سِجْنُ مَنْ تَرَكَ لَذَّاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا, فَأَمَّا الَّذِي لا يَتْرُكُ لَذَّاتِهَا وَلا شَهَوْاتِهَا فَأَيُّ سِجْنٍ هِيَ عَلَيْهِ؟».

ويبين الإمام ابن القيم أن الحديث فيه تفسيران صحيحان:

- أحدهما: أن المؤمن قيَّده إيمانه عن المحظورات، والكافر مطلق التصرف.

- الثاني: أن ذلك باعتبار العواقب؛ فالمؤمن لو كان أنعم الناس فذلك بالإضافة إلى مآله في الجنة كالسجن، والكفار عكسه، فإنه لو كان أشد الناس بؤساً فذلك بالنسبة إلى النار جنته».

     فالحديث لبيان مكانة الدنيا وحقيقتها، وليس فيه منع المسلم من الحلال الطيب، بل فيه تحريض للمؤمن على الإعراض عن الدنيا وعدم التعلق بها كحال الكفار، مع التمتع بما أحله الله تعالى للمؤمن من الطيبات بلا إسراف ولا تضييع للواجبات، والقيام بشكر الله تعالى على سائر نعمه، وتسخيرها لطاعة الله وفيما يرضاه، فعن قتادة في قوله تعالى: {ولا تنس نصيبك من الدنيا} قال: «طلب الحلال»، وعن ابن عباس قال: «أن تعمل فيها لآخرتك».

وأما قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ  قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.

     فقد قال ابن كثير: «يقول تعالى ردا على من حرم شيئا من المآكل أو المشارب والملابس، من تلقاء نفسه من غير شرع من الله: (قل) يا محمد، لهؤلاء المشركين الذين يحرمون ما يحرمون بآرائهم الفاسدة وابتداعهم: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ  قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: هي مخلوقة لمن آمن بالله وعبده في الحياة الدنيا، وإن شركهم فيها الكفار حسا في الدنيا، فهي لهم خاصة يوم القيامة، لا يشركهم فيها أحد من الكفار، فإن الجنة محرمة على الكافرين».

     وقال القرطبي: «دلت الآية على (جواز) لباس الرفيع من الثياب، والتجمل بها في الجمع والأعياد، وعند لقاء الناس ومزاورة الإخوان، قال أبو العالية: كان المسلمون إذا تزاوروا تجملوا. وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب أنه رأى حلة سيراء تباع عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريتها ليوم الجمعة وللوفود إذا قدموا عليك؟ فقال رسول الله  صلى اله عليه وسلم : «إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة». فما أنكر عليه ذكر التجمل، وإنما أنكر عليه كونها سيراء. (نوع من الثياب فيه خطوط صفر يخالطه حرير).

     وقد اشترى تميم الداري حلة بألف درهم كان يصلي فيها. وكان مالك بن دينار يلبس الثياب العدنية الجياد. وكان ثوب أحمد بن حنبل يشترى بنحو الدينار. قال خالد بن شوذب: شهدت الحسن وأتاه فرقد، فأخذه الحسن بكسائه فمده إليه وقال: يا فريقد، يا ابن أم فريقد، إن البر ليس في هذا الكساء، إنما البر ما وقر في الصدر وصدقه العمل». 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك