
البصيرة في الدين حقيقتها ومراتبها ومنزلتها (6)
ما زال الحديث موصولاً عن البصيرة في الدين، وقد بينا أن الحديث عن البصيرة في الدين خلال هذه الأيام ماسة وشديدة، لكثرة ما نشاهده من الفتن، والأمور التي تزلزل الناس، فنحن بحاجةٍ إلى مدارسة هذه القضايا حينًا بعد حين، وأن نتذاكر، وأن نتواصى، وأن نتناصح، وأن لا نمل، ولا نفتر من طرح هذه الموضوعات، وكنا تحدثنا عن الأمور التي تضعف البصيرة وذكرنا منها، الكفر بالله تعالى، والنفاق، والمعاصي واليوم نكمل ما بدأناه.
رابعًا: اتباع هوى النفوس
إذا غلب العقل النفس ارتدع الإنسان، وقمع عوارضه المدخولة، واستضاء بنور الله - تبارك وتعالى - واتبع الحق، والعدل، وإذا غلبت نفسه عقله عميت بصيرته، ولم يفرق بين الحسن، والقبيح، وعظم عليه الالتباس، وتردى في هوّة الردى، ومهواة الهلكة، كما يقول ابن حزم - رحمه الله.
خامساً: التعصب للباطل وإحسان الظن بأهله
فإن المتعصب للباطل لربما يكون ذلك سبباً لصرفه عن الحق، وإعراضه عنه، فيكون مشوهًا في عينه، ويكون أرباب الحق في حالٍ من التشويه في نظره، ومقاييسه، ومعاييره، ويكون الباطل في نظره مبررًا، ويُزيَّن له سوء عمله، ويرى أولئك الذين يمثلون الباطل الذي هو من قبيل البدع، والأهواء التي تعود إلى الشبهات، يرى أن هؤلاء على الحق فيدافع عنهم، ويلتمس لهم المعاذير، ويحسِّن أفعالهم، ويحملها على أحسن المحامل، وهكذا إذا كان هؤلاء من أصحاب الشهوات، والجرائم، والذنوب، والمعاصي، والتعصب له أثر لا يخفى، ولذلك كم من إنسان ترك الحق، ودلائله، وأهله بسبب تعصبه للباطل، وأهله، فهذا أمر يؤثر في البصيرة.
آثار البصيرة وثمراتها
بعد ذلك ننتقل إلى الحديث عن آثار هذه البصيرة، وعن ثمراتها إذا وُجدت، ورزق العبد بها.
أولاً: الانتفاع بالمواعظ، والتذكير
يقول الله -تعالى-: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا}(يس: 70)، والمقصود كما قال قتادة: حي القلب، حي البصر، حياة القلوب، أن يكون له قلبٌ، وقّاد ينتفع بالمواعظ، والتذكير، ويقبل على ما ينفعه، فيخرج من ذلك إذا سمع الخطبة، أو الموعظة، أو نحو هذا، يخرج بزيادة، وحال مرضية.
ثانياً: ثبات اليقين
صحة البصيرة تورث اليقين في القلب فلا يتزعزع، إنما أولئك الذين يتزعزعون هم أولئك الذين ضعفت بصائرهم بسبب غلبة الشبهة، أو غلبة الشهوة، فهؤلاء هم الذين يتساقطون في أوقات الفتن.
ثالثاً: نفاذ البصيرة
أن يكون لهذا الإنسان بصر نافذ إلى ما وراء الأشياء، يعني: أن ينظر إلى العواقب، وأن يحسن النظر في ذلك، فحاله كما قيل:
ويكاد من نور البصيرةِ أنْ يرى
في يومه فعلَ العواقب في غدِ
رابعاً: التمييز بين الأمور المشتبهة
فالاشتباه يقع في كثير من الأشياء، يقع الاشتباه أحياناً في الطمأنينة إلى ما عند الله - تبارك تعالى - والسكون إليه، بالطمأنينة إلى المعلوم من ضيعته، ومصدر رزقه، ومؤسسته التي يعمل فيها، أو مزرعته، وما إلى ذلك، ويظن أنه في حال من التوكل، والرضا عن الله، والواقع أنه متوكل على ضيعته، أو على راتبه، أو على المكان الذي يرتزق فيه، فهذا لا يميزه إلا أصحاب البصائر، كذلك يميز بين معدن الحق، ومعدن الشبهات، يميز بين المحبة الشرعية، والمحبة الأخرى التي تكون من قبيل التعلق المذموم، وهكذا يميز بين كثير من الأمور التي لربما تلتبس على الكثيرين.
خامساً: التحلي بصفات الكُمَّل من الأمة
يكون الإنسان متحليًا متصفًا بصفات الكُمّل من هذه الأمة، أتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا، وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108)، فأتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - هم أهل البصائر من بعده، فهذه صفة لأتباع الرسول - عليه الصلاة، والسلام - هؤلاء هم خلفاء الأنبياء، هم ورثة الأنبياء، هم أتباع الرسل حقًّا، وصدقاً، فزكت نفوسهم، واستنارت بصائرهم، فهم دائماً يبصرون الحق، ويدعون الناس إليه، لا يقع لهم تضعضع، ولا تزلزل، ولا يغير الواحد منهم مسلكه بين حين، وآخر، ففي كل يوم على مذهب، ورأي، ودين، وهوى، ثم بعد سنوات يغير، ويقلب للناس ظهر المِجَنّ، ويسلك طريقاً آخر يدعو الناسَ إليها، فهذا من ضعف البصائر.
سادسا: بلوغ مرتبة الصديقية
فالصدِّيق هو الذي كمل في هذا المقام، مقام الصديقية، يعني: الصدِّيق هو الذي كمل في تصديقه، وفي صدقه، وإنما يكون ذلك لمن كان على بصيرة من أمره، فيكون صادقاً، أمّا أهل النفاق فإن مبنى ما هم عليه من هذا النفاق على الكذب - كما هو معلوم - فهم أبعد الناس عن البصيرة، والصديقية إنما تحصل لأهل البصائر الكاملة، فإذا نقصت بصيرة العبد نقص من تصديقه، فالصدِّيق الأكبر - رضي الله عنه - ما بلغه شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا وقال: «إن كان قال ذلك فقد صدق».
والله -تعالى- يقول: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (النساء: 69) فهؤلاء أصحاب الدرجات العالية.
سابعاً: الثبات على الحق
يثبت الإنسان إذا تضعضع الناس، وحادوا عن الطريق، وقد قال ابن الأعرابي في قوله -تعالى-: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (يوسف: 108) قال: البصيرة هي الثبات في الدين.
ثامناً: السلامة من الفتن بأنواعها
فتن الشبهات، وفتن الشهوات، ففتن الشبهات إنما تكون من ضعف البصائر، وفتن الشهوات تكون من ضعف الصبر، وقد يجتمع للعبد هذا، وهذا، وكما قلت: صارت كثيرٌ من فتن الشهوات اليوم تغلف بلبوس الشبهات، فيستحلها صاحبها، يتحول هذا من منشد إلى مغنٍّ، ثم يخرج، ويتبجح، ويقول: أنا الآن انتقلت من حسن إلى أحسن، فيكون مستحلاً للغناء، وهذا يقوم أمام الملأ، ويقول بأن الربا ليس به بأس، ولا إشكال فيه، وأنه عوضٌ في مقابل هذا الأجل، وما إلى ذلك من الأمور التي صار الواحد لا يتوارى بعد أن ينحرف، وينتكس، بل صار يخرج أمام الملأ، ويراه الملايين، ويتكلم عن انحرافه، ويبرره، ويخرج بصورة المتبجح المجاهر بمعصيته، فيكون قد زُين له سوء عمله - والله المستعان.
تاسعًا: النجاة من الشقاء، والضلال
فمن لا بصيرة له فهو من أهل الضلال بلا شك في الدنيا، والشقاء في الآخرة.
عاشرًا: الاعتبار
فإذا تبصر العبد اعتبر، ومن عدم العبرة فكأنه لا بصيرة له، في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائر، فيعتبر حينما يرى الأموات، يعتبر حينما يرى النبات يخرج إذا نزل المطر، يعتبر حينما يرى الأرض بعدما صارت خضراء جميلة تجذب الناظرين، وفي حال من الزهو، والجمال تتحول بعد ذلك إلى هشيم، فيتذكر أن زينة الحياة مضمحلة، حينما يرى الهلال يبدو صغيراً حتى يكتمل، ثم يبدأ يضمحل يدرك أن كل شيء في هذه الحياة من أعمارنا، ومتعنا الزائلة إنما هو كهذا الهلال، يبدو صغيراً، ثم بعد ذلك ينكمش.
اعتبار السلف
ولهذا كان بعض السلف يعتبر في كل شيء، بعضهم جاء إلى روّاس يعني: - يبيع الرؤوس- فكان يصليها على النار، فبعضهم لربما كان يبكي بكاء شديداً؛ لأنه يتذكر قول الله - تبارك، وتعالى - في صفة أهل النار: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} (القيامة: 24.)، والباسرة في بعض التفسيرات هي التي قد قَلُصت الشفاه فيها عن الأسنان، قلصت شفاههم عن أسنانهم، فهكذا الرأس إذا عُرض على النار، رأس هذه الشاة إذا عُرض على النار تقلص الشفاه فتظهر الأسنان، فتذكروا هذه الآية.
بعضهم لربما كان صائماً، فطلب الشراب، وطلب ما يفطر به، فجيء له بماء بارد، فتذكر قول أهل النار: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ} (الأعراف: 50) فيبكي بكاءً شديداً، ولا يفطر.
فإذا أتيت على أرضٍ كانت غنّاء، ومزارع كانت عامرة بأهلها، وبأشجارها، ونخيلها، وثمارها، ثم رأيتها خاوية على عروشها فتذكر أن هذه تمثل نموذجاً من حقيقة هذه الحياة الدنيا، وسرعة تلاشيها، واضمحلالها، فهكذا ينبغي أن يعتبر الإنسان، ويتعظ بكل ما يشاهد.
لاتوجد تعليقات