رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: فَتْحي بِن عَبدِ الله المَوْصِليِّ 3 فبراير، 2021 0 تعليق

الإصلاح الشّرعيُّ.. المنطلقات والمقومات

ما زال الحديث مستمرًا حول منطلقات الإصلاح الشرعي الشامل؛ حيث ذكرنا أنَّ الداء العضال الذي أصاب الأمة في وقتنا الحاضر لا يعالج بالأمنيات والشعارات، ولا بإصدار البيانات وتحريك المظاهرات، وإنما يعالج بمنهجية عريقة وسنين طويلة وجهود كبيرة من العمل والإصلاح، وذكرنا أنه إذا تعيّنت عند المصلح الربانيّ المنطلقات والأولويات، وعلم من أين يبدأ؟ وتبينت له المقومات والعناصر والمواد، شرع بعد ذلك بحسب الإمكان في الإصلاح المتدرّج الشامل الجامع للوسائل والمقاصد، وقد ذكرنا من عناصر الإصلاح، إصلاح الخاطرة، وإصلاح الفكرة، وإصلاح الإرادة.

(4) إصلاح الكلمة بالصدق

     وهو إصلاح اللسان والخطاب والكلمة والمنطق، كما قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث معاذ - رضي الله عنه - الذي رواه الترمذي وغيره بإسناد صحيح:» ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم «.

(5) إصلاح العمل والطاعة بالاتباع

     وهو إصلاح الأعمال والطاعات بموافقتها للكتاب والسنة، وتطهيرها من الشرك والبدعة، كما قال -تعالى-:{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}، وقال -تعالى-: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّ هُ حَيَاةً طَيِّبَةً}؛ أي: آمن إيماناً شرعيّاً، وقال -تعالى-:{فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}.

(6) إصلاح المعاملة بالعدل والإحسان

     هذا النوع من الإصلاح من الدقة بمكان؛ بحيث تجري تصرفات الإنسان مع غيره على منوال الشريعة وأحكامها ومقاصدها، فيتديَّن العبد في معاملة الخلق بالصبر والسماحة والعدل والإحسان والآداب وكريم الأخلاق، كما قال -تعالى-: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ وَياقَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الاَْرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}؛ فأمرهم الله -تعالى- أولاً بإصلاح الفكر في الاعتقاد السليم والتوحيد الصحيح، ثم بإصلاح المعاملة؛ ليكون الإصلاح في المعاملة مبنيّاً على الإصلاح في الفكر.

(7) إصلاح الصحبة بالتقوى

وهذا ظاهر في قوله -تعالى-:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.

(8) إصلاح الأسرة بالتربية

كما قال -تعالى-: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وقال -تعالى-:{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ}، وقال -تعالى-:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}.

(9) إصلاح الدعوة بالحكمة

كما قال -تعالى-:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، وقال -تعالى-: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ}.

(10) إصلاح الإدارة بالتعاون والإتقان

كما قال -تعالى-:{قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا. َقالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا}.

(11) إصلاح القدوة بالمناصحة والمشاورة

     كما قال -تعالى- على لسان موسى -عليه السلام-: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} وقال -تعالى- على لسان ملكة سبأ-:{قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ}، وقال -تعالى- لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}.

(12) إصلاح الولاية بالقوة والأمانة

كما قال -تعالى-:{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}، وقال -تعالى-: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}.

(13) إصلاح السّياسة بالشّرع والعدل

     كما قال -تعالى-: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}، وقال -تعالى-: قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا}.

(14) إصلاح الدولة بالأمن والاستقرار

     كما قال -تعالى-: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ. فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُم ْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}، وقال -تعالى-: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}، وقال -تعالى- على لسان ملكة سبأ-: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}.

(15) إصلاح الأمة بالوحي والرسالة

     كما قال -تعالى-: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، وقال -تعالى-:{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}، وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }.

(16) إصلاح الحضارة بالعلم والأخلاق

     تطلق (الحضارة) على الإقامة في الحضر، ثم شاع استخدامها في العصر الحديث في الدلالة على مظاهر الرقي العلمي والأدبي والاجتماعي، أو للتعبير عن المدنية واتساع العمران، وإصلاحها يكون بالعلم والأخلاق، كما قال -تعالى-: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، وقال -تعالى-: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ}، وقال -تعالى-: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}.

أصلان عظيمان

     وهذه المقومات والعناصر من: المراقبة، وحسن الاعتقاد، والإخلاص، والصدق، والاتباع، والعدل والإحسان، والتقوى، والتربية، والحكمة، والتعاون والإتقان، والمناصحة والمشاورة، والقوة والأمانة، والشرع والعدل، والأمن والاستقرار، والوحي والرسالة، والعلم والأخلاق، كلها ترجع إلى أصلين عظيمين وهما: العدل، والعلم، كما قال -تعالى-: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}.

ثلاث حقائق مهمة

وهاهنا ثلاث حقائق مهمة للوصول إلى الإصلاح الشّرعي الشّامل المتدرّج، وهي:

الأولى: البدء بالأسهل

     أن البدء في كل مرحلة من مراحل الإصلاح وفي كل منطلق من منطلقاته ينبغي أن يكون بالأسهل، كما قال ابن القيم -رحمه الله- في كتاب (الفوائد) ( ص175): «ومن المعلوم أن إصلاح الخواطر أسهل من إصلاح الأفكار، وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات، وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل، وتداركه أسهل من قطع العوائد.

فأنفع الدواء: أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون ما لا يعنيك؛ فالفكر فيما لا يعني باب كل شر، ومن فكر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه».

الثانية: الأساس الصحيح

     أن المتقدم من المنطلقات هو مفتاح المتأخر، والمرحلة التالية من الإصلاح هي ثمرة المرحلة السابقة؛ فإذا بدأ الإنسان - على أساسٍ صحيحٍ- بإصلاح التفكير أصلح الله له الأعمال، وإذا باشر بإصلاح العمل، أصلح الله له الدعوة، وإذا أصلح الدعوة، أصلح الله له السياسة، وهذا ظاهر في قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}، فالآية دلت على أن إصلاح الأعمال جزاء لإصلاح القول؛ فالثاني هو ثمرة الأول وأثرٌ من آثاره، فعلى أهل الإصلاح أن يدركوا حقيقةً مهمةً، وهي أن الإصلاح السياسي ما هو إلا ثمرة الإصلاح الشامل في ميدان الدعوة والإدارة.

الثالثة: أهل الإصلاح غرباء

     الحقيقة الثالثة: أن أهل الإصلاح المتدرّج الشامل في كل عصر غرباء:غربة الحال، وغربة المعرفة، وغربة المنهاج، وقد تنشأ غربتهم من تمسكهم بدينهم وقيامهم به، أو من قلة عددهم وازدياد عدد مخالفيهم، أو من علو همتهم في حمل الحق مقارنةً بغيرهم، أو من اختصاصهم بفهم العلم والدين والإيمان، أو من تفردهم بإحياء السنن وتعليم الأحكام، أو من اشتغالهم بإصلاح أنفسهم وإصلاح ما أفسده الناس، وقد تنشأ غربتهم من ذلك كله؛ فهم البقية الباقية من أتباع الرسل من الذين ذكرهم الله -تعالى- في كتابه: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ}.

ويشهد لهذا المعنى: الحديث الذي رواه الطبراني بإسناد صحيح، وأصله في «صحيح مسلم»- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «طوبى للغرباء قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم».

الهدف المنشود

     والهدف المنشود لهؤلاء الغرباء الأنقياء الأتقياء هو: الوصول إلى النتائج الباهرة؛ بحيث تكون: الخاطرة سليمة، والفكرة صحيحة، والإرادة نقية، والكلمة سديدة، والعبادة مستقيمة، والمعاملة نافعة، والصحبة صادقة، والأسرة متماسكة، والدعوة ظاهرة، والإدارة ناجحة، والقدوة صالحة، والولاية أمينة، والسياسة عادلة، والدولة آمنة، والأمة جامعة، والحضارة قائمة، ليكون التناسب بين المنطلقات والمقومات، وبين النتائج والمقدمات بالمبنى والمعنى، وبالمنهاج والطريقة.

الإصلاح المغيّب

لماذا تأخرت النتائج، وتتابعت الحوادث، وتقاطعت المصالح، وتشعبت المدارس، وتزاحمت المطالب، وتنافرت المقاصد، وتناقصت التجارب، وتنازعت المنابر، وتلاشت المآثر، وتعطلت المكاتب، وتقطعت الأواصر؟!

     وحتى نتصور الجواب، ويزول عنا الاستغراب، ونتمكن من تشخيص الأسباب، وتعيين الآفات، لابد أن نتصوّر حقيقة مهمة، وهي أن هذه الأمور العظيمة ما كانت أن تقع لولا غياب الإصلاح في أنواعه الشاملة ومقاصده الجامعة؛ إذ الإصلاح المطلوب هو:إصلاح الدين، والعلم، والعقل، والقصد، والفكر، والنفس، والقلب، والوقت، والطبع، والقول، والنسب، والعزم، ومن ظفر بإصلاح (الدين والعلم والعقل) فقد ظفر بباب عظيم من أبواب الإصلاح؛ إذ بإصلاح الدين تكون الطاعة، وبإصلاح العلم تتحقق المصلحة، وبإصلاح العقل تظهر الحكمة.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك