
الإسلام سبق العالم في إرساء ركائز العمل الإنساني – فلسفة العمل الخيري في الإسلام
يصادف يوم 19 من شهر أغسطس ما يسمى باليوم العالمي للعمل الإنساني، وهو يوم مخصص للاعتراف بمجهودات العاملين في المجال الإنساني، وأولئك الذين فقدوا حياتهم بسبب المساعدات الإنسانية، ولا شك أن الإسلام سبق العالم في إرساء دعائم العمل الإنساني، واعتنت الشريعة الغراء عناية بالغة بالعمل الخيري لإغاثة الملهوف ومساعدة المحتاج دون مقابل مادي يحصل عليه المتطوع أو طلبًا للثناء والشهرة، أو نحو ذلك من أغراض الدنيا؛ فالعمل الخيري في الإسلام هدفه ابتغاء مرضاة الله ورجاء الثواب عند الله، فضلاً عما يناله في الحياة من بركة، وحياة طيبة، وسكينة نفسية، وسعادة روحية لا تقدر بثمن عند أهلها، فالعمل الخيري وإشاعته وتثبيته من المقاصد الشرعية أو الضروريات الأصلية التي حصروها في خمس، وهي: المحافظة على الدين، وعلى النفس، وعلى النسل، وعلى العقل، وعلى المال، وزاد بعضهم سادسة؛ وهي: المحافظة على العرض.
فسلفة الخير في الرؤية الإسلامية
ينبع مفهوم «الخير» من أصول الرؤية الإسلامية للعالم، وتشكل النزعة الخيرية ركنًا من أركان بناء الوعي الإسلامي للذات الإنسانية، وتوفر أساسًا من أسس تكوين الذات الفردية والجماعية في الخبرة الحضارية الإسلامية، فالخير مقصد عام وثابت للشريعة، وله مقاصد أخرى على نحو ما أوضحنا فيما سبق، وتتضمن الأصول الإسلامية (القرآن والسنة) نظرية متكاملة للخير وتطبيقاته وأبعاده النفسية والاجتماعية والاقتصادية؛ الفردية والجماعية.
فسلفة الخير في الحضارة الغربية
أما فسلفة الخير في الحضارة الغربية فلا يوجد بها ما يحض على المبادرة بعمل الخير، ولم تظهر نزعة العمل الخيري المجرد من المنفعة المادية للمتبرع في الأفكار الفلسفية الكبرى المؤسسة للحضارة الغربية، فكل شيء عندهم يقاس بحاجة الفرد ومصلحته المادية في المقام الأول والأخير، ويؤكد (مارسيل موس) في بحث له بعنوان (بحث في الهبة) أن حضارة الغرب لا تمتلك مفهوماً مستقلاً للعمل الخيري في ظل هيمنة الجانب الاقتصادي والفلسفة الرأسمالية على روحها، ولهذا لا يمكن فهم مؤسسات العمل التطوعي أو غير الهادف إلى الربح في البلدان الغربية بعيدًا عن قوانين الضرائب، حتى إنهم يطلقون عليه اسم (القطاع المعفي من الضرائب)؛ في إشارة صريحة إلى أن «الإعفاء الضريبي» هو أهم دافع للمبادرات الخيرية للصالح العام، وليس الصالح العام بحد ذاته هو ما يحرك نزعة التبرع بعمل الخير؛ باستثناء الأعمال الخيرية ذات الوازع الديني.
العمل الخيري في القرآن والسنة
وحول موقع العمل الخيري في القرآن والسنة نشير إلى أن العمل الخيري في القرآن والسنة جاء بصيغ شتى، بعضها أَمْرٌ به أو ترغيبٌ فيه، وبعضها نهيٌ عن ضده أو تحذيرٌ منه، بعضها مدح لفاعلي الخير، وبعضها ذم لمن لا يفعل فعلهم، بعضها يثني على فعل الخير في ذاته، وبعضها يثني على الدعوة إليه، أو التعاون عليه، أو التنافس فيه؛ ففي الدعوة لفعل الخير قال -تعالى-: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الحج: 77)، وقال: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} (آل عمران: 115). وفي قول الخير قال -تعالى-: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (البقرة: 83)، وفي الحديث: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت». وفي المسارعة إلى الخير قال -تعالى-: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدِّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} (آل عمران 133، 134)، وفي وصف بعض مؤمني أهل الكتاب: {يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} (آل عمران: 114)، وفي وصف أهل الخشية من ربهم: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} (المؤمنون: 61).
حث المؤمنين على عمل الخير
وقد حرص الإسلام في دفع المؤمنين إلى التسابق على عمل الخير بقوله -تعالى-: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} (المائدة: 48). وأن يقوم فريق من الناس بالدعوة إلى الخير لقوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} (آل عمران: 104)، وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله». مع الحض على الخير: مثل إطعام المسكين؛ حتى لا يهلك جوعا، بقول الله -تعالى-: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ* فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ* وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} (الماعون: 1-3)، وقال في شأن الكافر الذي استحق دخول الجحيم: {إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} (الحاقة: 33، 34)، وينكر الإسلام على المجتمع الجاهلي تركه لهذه الفريضة: {كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} (الفجر: 17، 18).
عقد النية لعمل الخيرات
ولم يقتصر الإسلام على الدعوة للخير وفعله؛ بل حرض المؤمنين على عقد النية لعمل الخيرات، وحتى ولو لم تتيسر لهم الظروف لفعله فإنه يثاب على نيته الخيرية، كما في حديث أبي كبشة الأنماري - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالا وعلما، فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا، فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالا، ولم يرزقه علما، يخبط في ماله بغير علم، ولا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما، فهو يقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء».
عظمة العمل الخيري
كما عظم الإسلام من شأن العمل الخيري ولو كان صغيرا؛ لقوله -تعالى-: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} (الزلزلة: 7)، وقال -سبحانه-: {إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء: 40)، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سبق درهم مئة ألف درهم». قالوا: وكيف؟ قال: «كان لرجل درهمان، تصدق بأحدهما، وانطلق رجل إلى عرض ماله فأخذ منه مئة ألف درهم فتصدق بها». كما مدح القرآن فاعلي الخير والداعين إليه وذم الذين يمنعون الخير، فقال -تعالى-: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَّشَّاءِ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} (القلم: 10-12)، فجعل من أوصاف هذا المشرك الذميمة جملة من الرذائل؛ مثل: كثرة الحلف، والمهانة (حقارة النفس)، والهمز (الطعن في الآخرين)، والمشي بين الناس بالنميمة، وكثرة المنع للخير، والاعتداء، والإثم، وهكذا نجد صفة أو رذيلة (مناع للخير) ضمن ما ذمه القرآن الكريم.
التعاون في فعل العمل الخيري
ويدعو الإسلام المسلمين إلى التعاون في فعل العمل الخيري بروح الفريق لقوله -تعالى-: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: 2). وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا»، وشبك بين أصابعه. داعيا أصحاب رؤوس الأموال إلى التنسيق والتعاون مع الجمعيات الخيرية والجهات المعنية بالضعفاء والمرضى والمعوقين وذوي الحاجات الخاصة لتقديم العون لهم؛ عملا بالحديث النبوي الشريف: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه». كما أن ثواب العمل الخيري لا يدانيه ثواب من الله تعالى؛ فالعامل على الصدقة - تحصيلا أو توزيعا- كالمجاهد في سبيل الله، إذا تحرى الحق، وابتغى وجه الله بعمله، ويدخل في هذا العاملون في الجمعيات الخيرية والإغاثية، وإن كانوا يأخذون أجرا على أعمالهم، إذا صحت نياتهم، وقصدوا بعملهم - في الأساس- وجه الله -تعالى-، فعن رافع بن خديج - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «العامل على الصدقة بالحق كالغازي في سبيل الله -عز وجل- حتى يرجع». وما ورد عن السيدة عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة، كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها بما اكتسب، وللخادم مثل ذلك، لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئا».
الوقف الخيري
كما حرص الإسلام على ضرورة إحياء سنة الوقف لتحقيق التكافل والتضامن بين أبناء الأمة، لما جاء في الحديث الشريف الذي رواه مسلم في صحيحه: «إذا مات ابن آدم انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له». وكما جاء عن ابن عمر - رضي الله عنه - أن عمر - رضي الله عنه - أصاب أرضا من خيبر، فقال: يا رسول الله، أصبتُ أرضا بخيبر لم أُصب مالا قط أنفس عندي منها، فما تأمرني؟ فقال: «إن شئتَ حبَّست أصلها، وتصدَّقت بها». فتصدَّق بها عمر رضي الله عنه، على أن لا تباع، ولا توهب ولا تورث - في الفقراء وذوي القربى، والرقاب، والضيف، وابن السبيل، لا جناح على مَن وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم غير متموِّل. وبهذا وضع الرسول صلى الله عليه وسلم الأساس الشرعي للوقف الخيري الذي كان أساس الحضارة الإسلامية، وكانت هذه الأوقاف من السَعَة والضخامة والتنوُّع بحيث صارت مفخرة للنظام الإسلامي، فكانت الأوقاف لليتامى واللقطاء، والعميان، والمقعَدين، وسائر العجزة، وذوي العاهات من المحتاجين، وهو ما يؤكد أن المجتمع المسلم مجتمع متراحم متكافل، يرحم الكبير فيه الصغير، ويعطف فيه الغنيُّ على الفقير، ويأخذ القويُّ بيد الضعيف، وهو كما صوَّره الرسول الكريم: كالجسد الواحد، وكالبنيان يشدُّ بعضه بعضا.
نماذج الوقف الرائعة في الإسلام
ورصدت الشريعة الإسلامية بعض نماذج الوقف الرائعة في الإسلام، منها: «وقف الأواني المكسورة»، وهو وقف تُشترى منه صحاف الخزف الصيني، فكلُّ خادم كُسرت آنيته، وتعرَّض لغضب مخدومه، له أن يذهب إلى إدارة الوقف فيترك الإناء المكسور، ويأخذ إناء صحيحًا بدلاً منه. وبهذا ينجو من غضب مخدومه عليه. و»وقف الكلاب الضالَّة»، وهو وقف في عدَّة جهات يُنفق من رَيعه على إطعام الكلاب التي ليس لها صاحب، استنقاذًا لها من عذاب الجوع، حتى تستريح بالموت أو الاقتناء. وأيضا «وقف إعارة الحليِّ في الأعراس»، حيث يستعير الفقراء منه ما يلزمهم في أفراحهم وأعراسهم، ثم يعيدون ما استعاروه إلى مكانه، وبهذه يتيسَّر للفقير أن يبرز يوم عرسه بحُلَّة لائقة، ولعروسه أن تجلَّى في حُلَّة رائقة، حتى يكتمل الشعور بالفرح، وتنجبر الخواطر المكسورة. و«وقف الزوجات الغاضبات»، وهو وقف يؤسَّس من رَيعه بيت، ويعدُّ فيه الطعام والشراب، وما يحتاج إليه الساكنون، تذهب إليه الزوجة التي يقع بينها وبين زوجها نفور، وتظل آكلة شاربة إلى أن يذهب ما بينها وبين زوجها من جفاء، وتصفو النفوس، فتعود إلى بيت الزوجية من جديد.
وقف الإيحاء إلى المريض بالشفاء
ومن النماذج الرائعة في الوقف «وقف الإيحاء إلى المريض بالشفاء»، وهو وقف فيه وظيفة من جملة وظائف المعالجة في المستشفيات، وهي تكليف اثنين من الممرِّضين يقفان قريبًا من المريض؛ بحيث يسمعهما ولا يراهما، فيقول أحدهما لصاحبه: ماذا قال الطبيب عن هذا المريض؟ فيردُّ عليه الآخر: إن الطبيب يقول: إنه على خير، فهو مرجو البُرء، ولا يوجد في عِلَّته ما يُقلق أو يزعج، وربما نهض من فراش مرضه بعد يومين أو ثلاثة أيام، وذلك اللون من العلاج النفسي للمريض يقرِّب الشفاء، واكتساب العافية. وقد ثبت علميا: أن هذا له أثره الإيجابي في التعجيل بالشفاء -بإذن الله.
لاتوجد تعليقات