
الأربعون الوقفية (34)
جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقل، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وأصوله؛ وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاماً وفوائداً جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملا, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا .
الحديث الرابع والثلاثون:
وقف المريض مرض الموت
عن عامر بن سعد عن أبيه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: مرضت عام الفتح حتى أشرقت على الموت. فعادني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أي رسول الله إن لي مالا كثيرا وليس يرثني إلا ابنة لي. أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: “لا”، قلت: فالشطر؟ قال: “لا”، قلت: فالثلث؟ قال: «الثلث. والثلث كثير . أن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» .
حديث سعد رضي الله تعالى عنه أصل في مقدار الوصية؛ والوقف في مرض الموت يخرج مخرج الوصية في حق نفوذه من الثلث، فيتوقف نفوذُه فيما زاد على الثلث على إذن الورثة؛ لأن حق الورثة تعلق بالمال بوجود المرض، فمنع التبرع بزيادة على الثلث .
فحينما مرض سعد بن أبي وقاص مرضاً شديدا في عام الفتح وقيل في حجة الوداع ، أتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فلما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا رسول الله! قد بلغ بي من الوجع ما تراه، وعندي مال كثير وليس يرثني إلا ابنة واحدة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: “لا” ، قلت: فالشطر؟ قال: “لا”، قلت: فالثلث؟ قال: «الثلث. والثلث كثير».
فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن الثلثين ثُم عن الشّطْرِ وأباح له الثلث ووصفه بالكثرة، فمن كان له وارث فليس له أن يوصي بأكثر من ثلثه لقول النبي صلى الله عليه وسلم والثلث كثيرٌ لقوله إنك إن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، فثبت بذلك حق للورثة في مال المريض بمنع ما زاد على الثلث .
وقد اتفق العلماء على أن له الوصيَّة بالثلث، وروى هشام بن عروة عن أبيه عن ابن عباس أنهُ قال لو غضَّ الناس إلى الرُّبْعِ ; لأن رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال الثلثُ والثلثُ كثيرٌ , فحُمِلَ قوله والثلث كثيرٌ على استكثار الثلث فِي الوصية والندب إلى التقصير عنه وروي عن عمر رضي الله عنه أنه أوصى بالربع وأوصى أبو بكر الصديق بالخمس, وقال: رضيت في وصيَّتِي بما رضي الله بِه لنبيه من الغنيمة .
يقول الشيخ بن عثيمين – رحمه الله - : ونرى كثيراً من الناس يظنون أن الوصية بالثلث أفضل من الوصية بما دونه وهذا خطأ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «الثلث والثلث كثير»، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما لو أن الناس قضوا من الثلث إلى الربع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الثلث والثلث كثير»، وأوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه بخمس ماله وقال أرضى بما رضي الله لنفسه فإن الله قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} (الأنفال:41) .
والوصية هي: «الأمر بالتصرف بعد الموت»، وإذن الشارع بالتصرف عند الموت بثلث المال، وذلك من الألطاف الإلهية والتكثير من الأعمال الصالحة، وفي الخبر عنه: «إنَّ الله تصدَّق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم». رواه ابن ماجه.
قال النووي في شرحه على مسلم: «لا ينفذ ما زاد عن الثلث إلا برضا الوارث..وأجمع العلماء في هذه الأعصار على أن من له وارث لا تنفذ وصية بزيادة على الثلث إلا بإجازته، وأجمعوا على نفوذها بإجازته على جميع المال»
فالإنسان حينما يرى قرب موته إما بمرض أو طول عمر فإنه يزهد في الدنيا بكاملها، حتى في أهله وأولاده، وينظر إلى ما بعد الموت، ويريد أن يقدم كل ما يمكن أن يستطيعه لآخرته، فهو تحت تأثير الرغبة والرهبة: الرهبة فيما هو مستقبل أمامه، والرغبة فيما عند الله من الأجر، فإنه يرغب بالتصدق، ومنهم من يوصي بأن يتصدق بكل ماله، وفي هذا ضرر للورثة، وهنا تكون النصيحة له بأن الحد الأقصى لا يتجاوز الثلث من ماله .
ويعتبر المريض مرض موت إذا توافر فيه شرطان: أولهما: أن يكون من الأمراض التي يغلب فيها الموت عادة بحسب الاستقراء الطبي. وثانيهما أن يتصل به الموت.
وقد نص مشروع قانون الأوقاف الكويتي في المادة الثانية منه على أن «تسري أحكام الوصية على الوقف الصادر من المريض مرض الموت، أو المضاف لما بعد الموت»، وجاء بالمذكرة الإيضاحية أن هذا النص قد أخذ بما جاء بنص المادة (942) من القانون المدني الكويتي التي تنص فقرتها الأولى على أن: «كل تصرف قانوني يصدر من شخص في مرض الموت بقصد التبرع يعتبر تصرفًا مضافًا إلى ما بعد الموت، وتسري عليه أحكام الوصية». وأن ذلك جاء نزولا على أقوال الفقهاء التي عبر عنها ابن قدامة من فقهاء الحنابلة بقوله: «الوقف في مرض الموت بمنزلة الوصية، في اعتباره من ثلث المال، وإذا خرج من الثلث جاز من غير رضا الورثة، وما زاد على الثلث، وقف الزائد على إجازة الورثة»( ).
وبعض المجتمعات الإسلامية ولاسيما في الخليج العربي - على وجه العموم- تعبر عن الوقف بتعبير الثلث، والوقف المضاف لما بعد الموت حكمه حكم الوصية بالوقف.
والوقف طاعة لله تعالى، فلا يضر معه أحد، ولا يمنع منه البنات دون الأبناء، فلا ضرر في الوقف، وقد استنكرت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها – حرمان البنات من نصيبهن ، فكانتْ إذا ذكرَت صدقات الناس، وإخراج الرِّجال بناتِهم منها، تقول: «ما وجدتُ للناس مثلاً اليوم في صدقاتِهم، إلا كما قال الله - عزَّ وجلَّ -: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} (الأنعام: 139)»، والله إنه ليتصدَّق الرَّجُل بالصدقة العظيمة على ابنته، فترى غضارة صدقته عليها، وترى ابنته الأخرى، وإنَّه لَيُعرف عليها الخصاصة، لَمَّا أبوها أخرَجَها من صدقته» . أي أن إحدى بناته تلمس كثرة الصدقة عليها، والابنة الأخرى قد لحقها الظلم والفقر نتيجة حرمانها، وفي ذلك إضرار ببعض أبناءه.
وللحديث فوائد ودلالات: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعود أصحابه إذا مرضوا وهذا من مكارم أخلاقه صلوات الله وسلامه عليه. عيادة المريض عمل يتقرب فيه إلى الله، عن البراء بن عازب، قال: «أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع: عيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، ونهانا عن: لبس الحرير ، والديباج، والقسي، والاستبرق، والمياثر الحمر» .
وفيه دليلٌ على جواز إخبار العليل بشدَّة حاله لمن يرجُو بركة دعائه، ومن يعلَمُ إشْفَاقُهُ عليه، ولذريته ليخبرهم ماله وما عليه من ديون لتعجيل سدادها.
وهذا الحديث من معجزاته صلى الله عليه وسلم، وهو أنه أخبر سعداً وهو مريض بأنه سيعيش وسيأتي له الأولاد ويكون له الورثة العديدون، قيل قد ولد له بعد ذلك أربعة، ومنهم من قال: ستة، ومنهم من قال: ثمانية من الأولاد ذكوراً وإناثاً.
والوقف الإسلامي مقاصده وغاياته لم تدركه أمة من الأمم، كما أدركه المسلمون، فهو تشريع من عند الله تعالى، وقد امتثل أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وصايا النبي وطبقوها تطبيقاً علمياً، فأوقف الصحابة رضوان الله عليهم الأوقاف ابتغاء مرضاة الله تعالى، روى محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة: «ما أعلم أحداً من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل بدر من المهاجرين والأنصار، إلا وقد وقف من ماله حبساً لا يشترى ولا يورث ولا يوهب، حتى يرث الأرض وما عليها»( ).
وللوقف هدف أسمى من بقية الأهداف وهو امتثال أمر الله سبحانه وتعالى بالإنفاق والتصدق والبذل فى وجوه البر، كما أن فيه أمتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة وحثه عليها ، ووسيلة لحصول الأجر والثواب من الله تعالى وتكثيرها، كما أن فيه وسيلة للتكفير عن الذنوب ومحوها، ومع الوقف تطول سنة الانتفاع من المال ومد نفعه إلى أجيال متتابعة .
وينبغي على المسلم شكر النعم، ومن شكرها تخصيص جزء من أمواله وجعله فيما يعود عليهم بالنفع العاجل والآجل، ففي الوقف استمرار للأجر للواقف، والنفع الموقف عليه، فهو من الأعمال التي لا تنقطع بموت صاحبها بل يستمر معها الأجر والثواب .
الهوامش:
1 - صحيح سنن ابن ماجة ، للألباني ، باب الوصية بالثلث . برقم 2189.
2 - انظر: البحر الرائق، (5: 211)، وتحفة المحتاج، (6: 251) ، والموسوعة الفقهية – الكويتية ، (44/126)
3 - جاء في صحيح البخاري ، برقم 1295: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع، من وجع اشتد بي ، فقلت: إني قد بلغ بي من الوجع ، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة ، أفاتصدق بثلثي مالي؟ قال : لا . قلت: بالشطر ؟ فقال: لا . ثم قال : الثلث والثلث كبير، أو كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء ، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس « .
4 - انظر المنتقى في شرح الموطأ مالك ، شرح حديث
5 - انظر للاستزادة : خطبة الشيخ بن عثيمين رحمه الله ،بعنوان : الوصية والوقف. موقع الشيخ http://www.ibnothaimeen.com
6 - شرح النووي لحديث رقم 1628.
7 - المذكرة الإيضاحية لمشروع قانون الأوقاف، الأمانة العامة للأوقاف، ص 14. ولمزيد من التفاصيل حول ما يتعلق وصية المريض مرض الموت انظر كلا من: أ.د. محمد مصطفى شلبي، مرجع سابق، ص 345- 351، والموسوعة الفقهية الكويتية، مرجع سابق، ج 44، ص 126- 129 .
8 - «المدوَّنة الكبرى»، للإمام مالك، (4 / 345).
9 - أخرجه البخاري في صحيحه، برقم 5849.
01 - أحكام الأوقاف للخصاف، ص:6 .
لاتوجد تعليقات