رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ عادل نصر 21 سبتمبر، 2020 0 تعليق

إلى القرآن يا عباد الله (1)


إن من أعظم أسباب النجاة في الدنيا والآخرة -بعد توحيد الله عزوجل والإيمان به- التمسك بالكتاب العظيم والفرقان المبين الذي أنـزله على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (الفرقان:1)، فهو معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم - الخالدة أبد الآبدين، ودهر الداهرين، لا تفنى عجائبه ولا يُدرك غاية إعجازه، ولا يندرس بمرور الأعصار، ولا يُمل مع التكرار، بل يُجلى مع ذلك ويتجلى، ويعلو ولا يُعلى، وكل معجزة قبله انقضت بانقضاء زمانها، لم يبقَ إلا تذكارها، وهو كل يوم براهينه في مزيد، ومعجزاته في تجديد، {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت:42).

     فأنـزله الله -عز وجل- لنقرأ تدبرًا، ونتأمله تبصرًا، ونسعد به تذكرا، ونحمله على أحسن وجوهه ومعانيه، ونصدق به ونجتهد على إقامه أوامره ونواهيه، ونجتني ثمار علومه النافعة الموصلة إلى الله -سبحانه وتعالى- من أشجاره ورياحينه، من الحكم من بين رياضه وأزهاره، فهو كتابه الدال عليه لمن أراد معرفته، ونوره المبين الذي أشرقت له الظلمات، ورحمته المهداة التي بها صلاح جميع المخلوقات، والسبب الواصل بينه وبين عباده إذا انقطعت الأسباب، وبابه الأعظم الذي منه الدخول الذي لا يُغلق إذا غلقت الأبواب، وهو الصراط المستقيم الذي لا تميل به الآراء، والذكر الحكيم الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تختلف دلالاته كلما ازدادت البصائر فيه تأملا وتفكيرًا زادها هداية وتبصيرًا، وكلما بجست معينه فجر لها ينابيع الحكمة تفجيرًا، فهو نور البصائر من عماها، وشفاء الصدور من أدوائها وجواها، وحياة القلوب ولذة النفوس، ورياض القلوب وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، والمنادي بالمساء والصباح يا أهل الفلاح حي على الفلاح.

القرآن أعظم معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم 

     فهو معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم- الكبرى، قال - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلاَّ أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، ولقد تحدى الله - عز وجل- به الإنس والجن: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء: 88)، ثم تحداهم بأكثر من ذلك: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (هود:13)، وقال - عز وجل-: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة:23-24).

دليل قاطع وبرهان ساطع

     يقول العلامة السعدي: «وهذا دليل قاطع وبرهان ساطع على صحة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصدقه، حيث تحدى الله الإنس والجن أن يأتوا بمثله، وأخبر أنهم لا يأتون بمثله ولو تعاونوا كلهم على ذلك لم يقدروا عليه، ووقع كما أخبر الله، فإن دواعي أعدائه المكذبين به متوفرة على رد ما جاء به بأي وجه كان، وهم أهل اللسان والفصاحة، فلو كان عندهم أدنى تأهل وتمكن من ذلك لفعلوه، فعُلم بذلك أنهم أذعنوا غاية الإذعان، طوعا وكرهًا، وعجزوا عن معارضته، وكيف يقدر المخلوق من تراب، الناقص من الوجوه، الذي ليس له علم ولا قدرة، ولا إرادة ولا مشيئة، ولا كلام ولا كمال إلا من ربه أن يعارض كلام رب الأرض والسموات المطلع على سائر الخفيات، الذي له الكمال المطلق والحمد المطلق، والمجد العظيم، الذي لو أن البحر يمده من بعده سبعة أبحر مدادا والأشجار كلها أقلام؛ لنفدت وفنيت الأقلام ولم تنفد كلمات الله»، {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (لقمان:27).

فضل قراءة القرآن

     وقد وردت النصوص الشرعية تبين فضل قراءة كتاب الله - عز وجل-، وأنه من أعظم الأعمال وأجلها في ميزان العبد، «فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ، فَقَالَ: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلاَ قَطْعِ رَحِمٍ؟» فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نُحِبُّ ذَلِكَ. قَالَ: «أَفَلاَ يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - عز وجل- خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلاَثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلاَثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنْ الإِبِلِ»، وعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الأُتْرُجَّة، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ لاَ رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنـزلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا، وهو أحق ما اجتمع الناس عليه تلاوة ودراسة، فوالله إنها للغنيمة الباردة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نـزلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمْ الْمَلاَئِكَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ».

     فعلى العبد أن يبذل وسعه ليتقن تلاوته على الوجه الذي يرضي ربه عنه، فإن عجز فإنه ليس بمحروم من الأجر مادام يأخذ بالأسباب، ويجتهد في ذلك، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ».

من أسباب الضياع الإعراض عن القرآن

     إن ما أصاب أمتنا اليوم من الضياع وتسلط الأعداء ونـزول البلاء، إنما سبب ذلك تفريطها في الخير الذي بين أيديها، وأعظمه على الإطلاق كتاب ربنا - عز وجل-، لما تمسك المسلمون الأوائل بهذا الكتاب العظيم وتلوه حق تلاوته كما أمرهم ربنا - سبحانه وتعالى-: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (البقرة:121)، قال ابن مسعود: «والذي نفسه بيده، إن حق تلاوته أن يُحل حلاله ويُحرم حرامه، ويقرأه كما أنـزله الله، ولا يُحرفُ الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئًا على غير تأويله»، وكذا قال ابن عباس: «يحلون حلاله ويحرمون حرامه، ولا يحرفونه عن مواضعه»، وقال الحسن البصري: «يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه، لما امتثلوا أمر ربهم أعزهم ورفع شأنهم، وسادوا الأمم، ونالوا خيري الدنيا والآخرة.»

ضبط حياة البشر

     يظهر لنا من هذا بجلاء أن القرآن ما نـزل ليُقرأ في المآتم، ولا لُتزين به الحوائط والمنازل والسيارات، ولا ليُعلق كتمائم، إنما نـزل ليحل الحلال ويحرم الحرام، ويضبط حياة البشر طبقًا لمنهاج الله، فهو دستور الأمة بلا نـزاع، ولما كانت الحياة الحقيقية متوقفة على العمل بالقرآن فهي بغيره موات، سمى الله -عز وجل- كتابه روحًا، فقال وهـو أصدق القائلين: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} (الشورى:52-53)، وسماه - عزوجل- نورًا كذلك؛ لأن الحياة بغيره ظلام دامس، وهو الشفاء لأمراض القلوب والأرواح والمجتمعات {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} (الإسراء:82).

شفاء لسائر البشر

     ولا يظنن ظانٌّ أن القرآن شفاء للمؤمنين فقط، إنما هو شفاء لسائر البشر، ولكن الله - عز وجل- هنا خصَّ المؤمنين بالذكر لأنهم هم المنتفعون به دون سواهم؛ ولذا لما أعرضت الأمة اليوم عن كتاب ربها - عز وجل- ذاقت وبال أمرها، واستحالت حياتها ضنكا وجحيما لا يطاق، وصدق الله - عز وجل- إذ يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (طه:124)، قال ابن عباس - رضي الله عنه -: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة)، فبتدبر آياته تحيا القلوب من مواتها أعظم مما تحيا الأرض بوابل السحاب، ويتميز الخطأ من الصواب، والقشـور من اللباب، ولذا أمرنا الله - عز وجل- بتدبـر آياته، وقال وهو أصدق القائلين: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (ص:29).

تدبر القرآن وإطالة تأمله

      «فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته: من تدبر القرآن وإطالة التأمل، وجمع منه الفكر على معاني آياته، فإنها تُطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما، وعلى طرقاتهما وأسبابهما وغاياتهما وثمراتهما ومآل أهلهما، وتثل في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتشيد بنيانه وتوطد أركانه وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم وتريه أيام الله فيهم، وتبصره مواقع العبر وتشهده عدل الله وفضله، وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله وما يحبه وما يبغضه وصراطه الموصل إليه وما لسالكيه بعد الوصول والقدوم عليه، وقواطع الطريق وآفاتها، وتعرفه النفس وصفاتها، ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم وأحوالهم وسيماهم ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأقسام الخلق واجتماعهم فيما يجتمعون فيه وافتراقهم فيما يفترقون فيه.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك