رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني 5 سبتمبر، 2017 0 تعليق

إثارة الفتن-ما جَرَّتْ على المسلمين إلا شرًّا فزادت الكادح كدحًا، والمظلوم ظلمًا، والمنكر فُحْشًا

 

إن الأمن والاستقرار نعمةٌ عظيمٌ نفعها، كريمٌ مآلها، وهي مَظَلُّةٌ يستظل بها الجميع مِنْ حَرِّ الفتن والتهارج، وهذه النعمة يتمتع بها الحاكم والمحكوم، والغني والفقير، والرجال والنساء، بل البهائم تطمئن مع الأمن، وتُذْعَر وتُعطَّل مع الخوف واضطراب الأوضاع، وتهارج الهمج الرعاع؛ لذلك كان لابد أن نقف مع هذه النعمة لنستعرض أهميتها وسبيل تحققها والحفاظ عليها، واستكمالا لهذا الموضوع نقول:

      إنه من العجب: أن ترى بعض الجماعات تستدل بالكلام السابق لشيخ الإسلام في وجوب نصب الإمارة: على وجوب بيعة  أميرها، ولزوم الانضواء في حزبها، وضرورة الانتماء لرايتها وشعاراتها!! هذا؛ مع أن كثيرًا من أمرائهم مستضعفون مجهولون، لا يكاد يَعْلَم بهم إلا من يثق به، ويطمئن إليه!!

ومع ذلك فلا يرون السمع والطاعة في المعروف للملوك والرؤساء الممكَّنين بالاختيار، أو بالغلبة والشوكة في جميع البلدان!! - وإن كان بعضهم في الكلام عنه تفصيل - مع أن الطاعة لا تكون إلا لممكَّن معلوم.

نصوص السمع والطاعة

     لكن قد يقول قائل: هذه النصوص السابقة في السمع والطاعة في المعروف، والصبر على الأذى؛ كلها حق، ولكنها تُنـزَّل على الأئمة المسلمين، الذين عندهم جور وظلم على أسوأ الاحتمالات، أما جميع حكام زماننا فكفار، ومن هنا فلا سمع لهم ولا حُرمة، وتعيَّن الخروج عليهم لإزالتهم!!

- والجواب: أننا لا نسلم بهذا الإطلاق، ولو سلمنا - جدلًا- بما قالوه؛ فهل يلزم من ذلك إثارة الفتن، وفتح أبواب الشغب المفضي إلى محق ما بقي من خيرٍ في المجتمعات ؟!   فكُفْر الحاكم شيء، وجرّ الفتن على البلاد والعباد شيء آخر!!

الحل ليس في إثارة الفتن

     فهل إثارة الفتن هي التي تجعل الحاكم الكافر مسلمًا، والفاجر منهم تقيًا ؟ وهل اندلاع نار الفتن المفضية إلى إهلاك الحرث والنسل، وزيادة المظلوم ظلمًا،والفاجر فجورًا؛ هو الذي يقيم شعائر الدين، ويُذِلُّ العصاة والكافرين ؟ وهل عقوبة الفاسق أو الكافر - شرعًا - تكون بهذه الطريقة ؟! وهل استفدنا خلال عقود من الزمان - أكثر من  نصف قرن - من هذه الأفعال في عدد من البلدان، فَقَلَّ بها الشر أو زال ؟!

جرت الشر على المسلمين

     إن الناظر بعين العدل والتجرد؛ يجد أن هذه الأمور ما جَرَّتْ على المسلمين إلا شرًّا، فزادت الكادح كدحًا، والمظلوم ظلمًا، والمنكر فُحْشًا، بل نجد بعض المسلمين في بعض البلدان يتمنون دخول اليهود والنصارى؛ ليوقفوا الحرب الأهلية بينهم، أو يستعينوا بهم على إخوانهم وأبناء جلدتهم!! ) {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} (الحشر: 2).

تغيير الفتوى بتغير الأزمنة

     قال الإمام ابن القيم -  رحمه الله - في سياق تمثيله لقاعدة: تغيير الفتوى بتغير الأزمنة والأحوال: «... المثال الأول: أن النبي -  صلى الله عليه وعلى آله وسلم - شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر؛ ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه، وأبغض إلى الله ورسوله؛ فإنه لا يسوغ إنكاره - وإن كان الله يُبغضه ويمقت أهله - وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر، وقد استأذن الصحابةُ رسولَ الله -  صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم ؟ فقال: «لا، ما أقاموا الصلاة،» وقال: «من رأى من أميره ما يكره؛ فلْيصبر، ولا ينـزعنَّ يدًا من طاعته ».

الفتن الكبار والصغار

     قال: «ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل، وعدم الصبر على المنكر، فطلب إزالته، فتولَّد عنه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله -  صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يرى بمكة أكبر المنكرات، ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة، وصارت دار إسلام؛عَزَم على تغيير البيت ورَدِّه على قواعد إبراهيم، وَمَنَعَهُ من ذلك - مع قدرته عليه - خشيةُ وقوع ما هو أعظم منه، من عدم احتمال قريش لذلك، لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد؛ لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه، كما وُجِد سواء...».

     إلى أن قال - رحمه الله -: «وسمعت شيخ الإسلام - قدّس الله روحه، ونوَّر ضريحه - يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم مَنْ كان معي؛ فأنكَرْتُ عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر؛ لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس، وسَبْي الذرية، وأخْذ الأموال، فَدَعْهُمْ».اهـ.

تغيير المنكر مقيد بالقدرة والمصلحة

     قلت: فتأمل قول ابن القيم -  رحمه الله -: «فقد كان رسول الله-  صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يرى بمكة أكبر المنكرات، ولا يستطيع تغييرها» ولا شك أن المراد بذلك عبادة الأصنام، وهذا كفر بواح لا إشكال فيه، ومع ذلك لم يغيره الرسول -  صلى الله عليه وعلى آله وسلم - آنذاك؛ لضعف قدرة المسلمين على ذلك، ولما يترتب عليه من شرٍّ  وفتنة، وهذا كله يدلك على أن تغيير المنكر مقيد بالقدرة والمصلحة، سواء كان ذلك في زمن حاكم فاسق، أو كافر كفرًا لا خلاف فيه.

الموازنة بين الحسنات والسيئات

     وانظر في «الاستقامة» حكاية شيخ الإسلام عن نفسه إنكاره على المسلمين الذين أنكروا على التتار والكرج ونحوهم شرب الخمر، وكذا تفصيله البديع في مراعاة المصالح والمفاسد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى قال: «فالحاصل أنه تجب الموازنة بين الحسنات والسيئات التي تجتمع في هذا الباب وأمثاله وجودًا وعدمًا... ».اهـ. 

مخالفة النص الصريح

     فالذين يرون  الخروج لكفر حكام المسلمين جميعًا - عندهم - لم يراعوا ما اعتنى به السلف من النظر إلى القدرة والمصلحة، بل خالفوا النص الصريح: ) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ( والاستطاعة الشرعية لا تكون كذلك إلا بإزالة المنكر بدون مفسدة مساوية أو راجحة، وذلك كله بتقدير أهل العلم والفهم، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «والاستطاعة في الشرع: هي مالا يحصل معه للمكلَّف ضرر راجح ... ».اهـ، وبيَّن -  رحمه الله – «أن القتال إذا كانت مفسدته أكبر من مصلحته: فهو قتال فتنة...» .اهـ.

ميزان الشريعة

     وإن ذلك التقدير يكون بميزان الشريعة، لا بالتَّشَهِّي والفوضى، لما قال شيخ الإسلام: «لكن اعتبار المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص؛ لم يعْدل عنها، وإلا اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقلَّ أن تعوز النصوص من يكون خبيرًا بها وبدلالتها على الأحكام».اهـ، وقد قال الجويني في «غياث الأمم» في سياق الكلام على من يُقَدِّر المصالح والمفاسد، فقال: «ولا يكون ذلك لآحاد الرعية، بل لأهل الحل والعقد».

هل يلزم الخروج بالسلاح؟

     فلو سلمنا بإطلاق تكفير حكام المسلمين اليوم جميعًا - كما يرى هؤلاء المخالفون - فلا يلزم الخروج عليهم بالسلاح، لأن غاية الأمر أن يكون حال المسلمين اليوم كحال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -عندما كان يرى أكبر المنكرات وعبادة الأصنام بمكة؛ وهو صابر على ذلك، ومشتغل بأمر الدعوة، لا مجرد تكسير الأصنام فقط، فلما حطمها من قلوبهم؛ حطمها أمام أعينهم، وهم يحمدون الله ويشكرونه على نعمة الإسلام، فأين نحن من الحكمة النبوية ؟!

حال النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده

     فمن نظر في حال رسول الله-  صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم- بمكة، ورأى صبرهم على أذى المشركين مع الدعوة بالتي هي أحسن؛ علم الفارق بين هذا وبين حال من خالف منهج العلماء اليوم، والله المستعان.

وكذلك موقف الإمام أحمد ممن أراد الخروج على الواثق، مع قول الواثق بخلق القرآن، ودعوته إلى ذلك، وامتحان الناس بذلك، وإيذاء أهل السنة، واتفاق العلماء على كفر هذه المقالة.

وكذلك موقف شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى - وغيره من علماء السنة من الحكام الباطنيين، والحلوليين، وغلاة المعطلة، وغير ذلك ممن وقعوا في مكفِّرات عظيمة، والله أعلم.

الشر والفوضى والفساد

     ولذا فقد قال صاحب الفضيلة الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله  -: «... وإذا فرضنا على التقدير البعيد: أن ولي الأمر كافر؛ فهل يعني ذلك أن نُغِير الناس عليه، حتى يحصل التمرد، والفوضى، والقتال ؟! لا شك أنه خطأ، المصلحة التي تحصل غير مرجوة في هذا الطريق، ، بل يحصل في ذلك مفاسد عظيمة، لأنه - مثلًا - إذا قام طائفة من الناس على ولي الأمر في البلاد، وعند ولي الأمر من القوة والسلطة ما ليس عند هذا، ما الذي يكون ؟ هل تغلب هذه الفئة القليلة ؟ لا تغلب!! بل بالعكس: يحصل الشر والفوضى والفساد، ولا تستقيم الأمور، والإنسان يجب عليه أن ينظر أولًا بعين الشرع، ولا ينظر أيضًا إلى الشرع بعين عوراء، ينظر إلى النصوص من جهة دون الجهة الأخرى، بل يجب أن يجمع بين النصوص.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك