
أهم تيارات التكفير والعنف ودور الدعوة السلفية في مواجهتها (3)- القطبية (1)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:-
1) التعريف بالمصطلح:-
هي مدرسة فكرية تُنسب إلى الأخوين الشقيقين الأستاذ سيد قطب والأستاذ محمد قطب، ورغم أن الأستاذ سيد يعد هو الأب الروحي الذي صاغ فكر الأستاذ محمد إلا أن للأستاذ محمد الدور الأكبر في تأسيس المدرسة القطبية وتوضيح أبعادها وشرحها بعبارات صريحة ومباشرة لا تحتمل التأويل أو تعدد التفاسير؛ مما جعله يتبوأ الصدارة والمسؤولية عن هذا الفكر بخلاف الأستاذ سيد الذي يدور حول ماكتبه وما عناه مما كتبه جدل طويل وكبير.
هذا من ناحية الفكر، أما الوعاء التنظيمي الذي ينتظم فيه هذا الفكر فعادة لا يأخذ نهجاً واحداً، بل تسمع عن عشرات التجمعات والهيئات والمسميات في البلد الواحد، والعجيب في الأمر أنه من النادر أن يُظهر هؤلاء الانتساب للقطبية بل غالباً ما يتسمون بأسماء مشتقة من (أهل السنة والجماعة) أو مشتقة من (السلفية) كما هو الحال فيمن يسمون أنفسهم بـ (الجبهة السلفية) في مصر، وهذه التجمعات تتفق وتختلف في تفاصيل كثيرة إلا أنهم يجتمعون على تقديم فكر الأستاذين واعتماده المرجعية العليا لهم.
2) لمحة تعريفية عن الأستاذ سيد قطب:-
حتى نستطيع فهم شخصية سيد وحقيقة الأفكار التي تركها، علينا أن نستعرض سريعاً المراحل التي مر بها في حياته التي أسهمت في تكوين وعيه وبناء ثقافته، وقد أفاضت عدد من الكتب والدراسات في ترجمة حياة سيد قطب ومناقشة أفكاره والأحداث المهمة في حياته منها كتاب (سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد) للدكتور (صلاح عبد الفتاح الخالدي)، وتكلم عنه الأستاذ سالم البهنساوي في كتاب بعنوان (سيد قطب بين العاطفية والموضوعية) وقد عالج فيه بعض آراء سيد مثل الحاكمية والجاهلية والتكفير، كما عالج ذلك أيضاً في كتابيه (أضواء على معالم في الطريق)، وكتاب (الحكم وقضية تكفير المسلم)، وتكلم عنه الأستاذ عبدالحليم محمود في موسوعته الشهيرة (الإخوان رؤية من الداخل)، وتكلم عن تجربته مع تنظيم 65 (علي عشماوي) في كتابه (التاريخ السري لجماعة الإخوان) وزينب الغزالي في مذكراتها، ومن خارج الإسلاميين كتب عادل حمودة كتاباً بعنوان (سيد قطب من القرية إلى المشنقة)، وغيرها من الكتب والرسائل لكن هذه هي أهم الدراسات الموجودة وأشهرها.
وهناك كتاب آخر على قدر كبير من الأهمية وهو كتاب (لماذا أعدموني؟) لسيد قطب، وهو الإقرار الذي كتبه سيد بخط يده في السجن الحربي عام 1965 قبل الحكم عليه بالإعدام وهي شهادة موثقة عن الأحداث، فضلا عن محاضر التحقيق ونص الأسئلة والأجوبة التي دارت بين القضاة وبين سيد -رحمه الله- وهي ثابتة وموثقة أيضاً.
وسوف نلتقط أهم المحطات التي تبرز لنا التحولات الرئيسية في حياته:-
- المرحلة الأولى: طفل من القرية (1906 - 1920):-
ولد سيد قطب في أسيوط عام 1906 م في قرية تتميز بالجمال وكثرة الأراضي الزراعية، وكانت أسرته متوسطة الحال وكان لوالده وجاهة في القرية؛ حيث كان مثقفاً ومشتغلاً بالسياسة، وكان ممن جهزوا لثورة 1919م، والأسرة عموما كانت متدينة ومحافظة على الصلاة، فقد كان أبوه يربيه على تعاليم الدين وارتياد المساجد وحضور دروس العلم؛ لذا فقد أتم ختم القرآن وهو في العاشرة من عمره، وقد تعود سيد على القراءة والمطالعة منذ صغره وكان يقتني نفائس الكتب، ويقتطع من مصروفه الشخصي حتى يستطيع شراء ما يحتاجه من الكتب؛ وبالتالي تكونت لديه مكتبه ضخمة منذ صغره، أسهمت في نضج فكره وإثراء معرفته.
ولأن والد سيد كان مشتغلاً بالسياسة فكان من الطبيعي أن تتكون لدي سيد ميول سياسية في سن مبكرة، فشارك في أحداث ثورة 19 وكان يلهب حماس الجماهير بالخطب الحماسية الرنانة رغم أن عمرة وقتها لم يتجاوز ثلاث عشرة سنة.
توقف سيد عن الدراسة لمدة سنتين؛ بسبب أحداث الثورة، ثم سافر إلى القاهرة عام 1920م، وأقام عند خاله الذي كان عضواً في حزب الوفد، وكان صديقاً لعباس العقاد، ومن هنا تبدأ مسيرة سيد قطب الأدبية، وقد سجل سيد ذكريات هذه الفترة من حياته في كتابه (طفل من القرية) وكتابه (الأطياف الأربعة).
- المرحلة الثانية: الأديب الساخر (1921 - 1945):-
ذهب سيد إلى القاهرة، والتحق بمدرسة المعلمين في عام 1921 ثم تخرج فيها عام 1924 وكان من المفترض أن يعمل بعدها في مجال التدريس ولكنه فضل الاستمرار في التعليم؛ فالتحق بتجهيزية دار العلوم عام 1925 وتخرج فيها عام 1929، ثم التحق بعدها بكلية دار العلوم وتخرج فيها عام 1933.
بعد تخرج سيد من الكلية بدأت معاركه الأدبية في الظهور والانتشار؛ حيث كان لاذع النبرة، ساخر العبارة، شديد النقد على كل من يخالفه، وكان من أشد المهاجمين للأديب العبقري (مصطفى صادق الرافعي) رحمه الله ولتلميذه النجيب العلامة (محمود شاكر) رحمه الله؛ وسبب ذلك أن الرافعي كان دائم السخرية والنقد لـ (طه حسين) ولـ (عباس العقاد)، وسيد كان يعد العقاد أستاذه الأول في الأدب، وكان محباً له لدرجة التعصب، ومتيماً به لدرجة الجنون، فدفعه هذا الحب إلى الغلو والمبالغة ومفارقة الوسطية، أما طه حسين فقد كان سيد يقدر أدبه غاية التقدير، وكانت تربطهما علاقة قوية، فكان يدافع عنه باستمانه حتى ولو جانبه الصواب، فهكذا كانت طبيعة سيد في هذه المرحلة.
عمل سيد في وزارة التربية والتعليم فور تخرجه في دار العلوم، ثم تنقل في وظائف مختلفة داخل الوزارة، ثم سافر إلى أمريكا بالباخرة عام 1948، ولهذا السفر قصة فارقة في حياة سيد رحمه الله للتخصص في علم التربية وأصول المناهج، وعاد بعدها بسنتين عام 1950 ليتم تعينه مراقب مساعد للوزير لسنوات عدة، وبعدها قام بتقديم استقالته لوزير التعليم وقتها (اسماعيل القباني) الذي رفعها لرئيس مجلس الوزراء (جمال عبدالناصر) وقام بالموافقة عليها عام 1954؛ حيث أصبح سيد وقتها عضواً في جماعة الإخوان ورئيس التحرير لمجلة الإخوان المسلمون.
واللافت للنظر أن سيد كان يعيش تلك المرحلة من حياته مضطرباً غاية الاضطراب؛ حيث تعارضت لديه المباديء والأفكار والفلسفات الأوروبية التي قرأها وأخذها من بعض أساتذته، مع ما استقر في وجدانه منذ الصغر من أصول وثوابت إسلامية، تلك المرحلة التي يسميها سيد بمرحلة الضياع، وقد استمرت معه قرابة خمسة عشر عاماً، وكانت الثقافة الغربية قد سيطرت عليه لأبعد مدى حتى جعلته يمر بمرحلة من الشك والارتياب في الحقائق الدينية ذاتها على حد تعبيره، بل وصل الأمر إلى نوع من الاضطراب السلوكي أيضاً يصفه الأستاذ عبدالحليم محمود في الجزء الأول من موسوعة (الإخوان أحداث صنعت التاريخ) بقوله: «لقد كان سيد في هذه المرحلة مسفاً منحلاً، يطالب بحياة بهيمية، ويدعو إلى المجتمع العاري».
- المرحلة الثالثة: حياته الإسلامية ثم انتماؤه إلى جماعة الإخوان ( 1945 - 1954):-
ذكرنا أن سيد كان قد بدأ حياته السياسية وفدياً بسبب أن خاله كان كذلك، ثم لما تعرف على العقاد وأعجب به وجده وفدياً أيضاً؛ فترسخ الانتماء للوفد عنده أكثر، وظل كذلك حتى عام 1942، فترك الوفد وانضم إلى حزب السعديين، ثم تركه أيضاً عام 1945 ناقماً على الأحزاب كلها وعلى آدائها.
ومن بعدها بدأ سيد في الكتابات الإسلامية العامة وتحديداً في باب الرؤية الأدبية للقرآن، وبدأها بكتابه (التصوير الفني للقرآن) ثم بكتاب (مشاهد القيامة في القرآن)، ثم اقترب أكثر وأكثر من الرؤية الإسلامية في السنوات التي تلى ذلك إلى أن جاء موعد سفره لأمريكا عام 1948؛ حيث كان على موعد مع نقلة حقيقية في حياته.
النقلة النوعية التي انتقلها سيد من حياته السابقة إلى الحياة الجديدة لها بداية عجيبة، هذه البداية كانت على متن الباخرة التي تقله إلى أمريكا كما ذكرنا، وفوق هذه الباخرة حدثت له حادثتان كل منها أعجب من الأخرى، وقد أسهمت هذه الرحلة في التحول الفكري الكبير لدى سيد رحمه الله، أما الأولى فقال عنها في كتاب أمريكا من الداخل:-
«وما أن دخلت الغرفة، حتى كان الباب يُقرع، وفتحت، فإذا أنا بفتاة هيفاء جميلة فارعة الطول شبه عارية، يبدو من مفاتن جسمها كل ما يغري، وبدأتني بالإنجليزية: هل يسمح لي سيدي بأن أكون ضيفة عليه هذه الليلة؟ فاعتذرت بأن الغرفة معدة لسرير واحد وكذا السرير لشخص واحد، فقالت وكثيراً ما يتسع السرير الواحد لشخصين، واضطررت أمام وقاحتها ومحاولة الدخول عنوة لأن أدفع الباب في وجهها لتصبح خارج الغرفة، وسمعت ارتطامها بالأرض الخشبية في الممر فقد كانت مخمورة».
أما الحادثة الثانية فقد أخبره أحد الركاب أن مبشراً نصرانياً على متن الباخرة يحاول نشر النصرانية بين الركاب؛ فاستيقظت مشاعره الإيمانية، وغار على دينه وطلب من قبطان الباخرة أن يسمح للركاب بصلاة الجمعة، وقام بإلقاء خطبة فيهم، وحدثهم عن الإسلام وعن عظمته، وقد كان سيد من أشد المتأثرين بالحدث وبالموقف.
ولما وفقه الله لهذه الهداية ولهذه الولادة الجديدة وهب ما تبقى من حياته للقرآن، وسطر مشاعره وسمو روحه في تلك اللحظات وضمنها في مقدمة كتابه (تفسير الظلال) بعبارات غاية في العذوبة والرقة والشعور بلذة القرآن.
بدأ سيد انضمامه لجماعة الإخوان وانتظامه في صفوفها عام 1953، ثم كان السجن الأول له في مطلع عام 1954، وأفرج عنه بعد أشهر عدة، ثم اعتقل ثانية في نهاية عام 1954 بعد حادث المنشية، وحكم عليه بـ 15 عام، ثم أفرج عنه بعفو صحي عام 1964، وبعد أشهر عدة تم اعتقاله مع العشرات من الإخوان في صيف 1965 بتهمة التآمر لقلب نظام الحكم، وأعدم بعد منتصف عام 1966 عن عمر يناهز الستين.
هذا بإختصار هو تاريخ الحقبة الإسلامية في حياة سيد - 13 عام - قضى منها 11 عام في السجن على فترتين الأولى 10 سنوات والثانية سنة واحدة، ثم كان الحكم عليه بالاعدام رحمه الله.
علاقة سيد قطب بتنظيم الضباط الأحرار:-
كان سيد على علاقة وطيدة بالضباط الأحرار وبجمال عبدالناصر تحديداً، فقد كان الضباط في الجيش يقدرونه جداً، ويقرؤون كتبه ومقالاته ويعدونه فيلسوف الثورة ومشعل حرارتها، وكانوا عادة ما يجتمعون في منزله ويطلبون منه المشورة والرأي، بل لقد كان سيد هو العضو المدني الوحيد – إن صح التعبير - في تنظيم الضباط الأحرار، وقد قرر مجلس قيادة الثورة أن يسندوا إليه منصب وزير المعارف ولكنه اعتذر، ثم رجوه أن يتولى منصب المدير العام للإذاعة ولكنه اعتذر أيضاً، ثم وافق على مضض أن يكون السكرتير العام لهيئة التحرير، ولكنه مكث فيها أشهر عدة ثم دب الخلاف بينه وبين عبدالناصر فاستقال من منصبه وتركها، مع احتفاظه حتى ذلك الحين بعلاقة جيدة مع عبدالناصر، ومن أراد أن يعرف كيف كان ضباط الثورة يقدرون سيد قطب فليقرأ تفاصيل الحفل الحاشد الذي أقامه رجال الثورة بعد شهر من نجاحها لكي يكرموا فيه سيد، وليدعوه ليلقي محاضرة بعنوان (التحرر الفكري والروحي في الإسلام) وقد وصفه محمد نجيب وجمال عبدالناصر وغيرهم من القادة بأنه رائد الثورة ومعلمها وراعيها وغير ذلك من مديح وثناء لا يوصف.
وعندما دب الخلاف بين الإخوان حاول عبدالناصر التوسط بينهم وبينه لعلاقته الجيدة بالطرفين ولكنه فشل في ذلك وقد سجل ذلك في ملاحظاته حول هذه الحقبة في كتاب لماذا أعدموني؟.
اقترب الإخوان من سيد بشدة، واستغلوا خلافه مع عبدالناصر، واقترب هو منهم وأعجب بتنظيمهم وحركتهم، وقد فرح الإخوان بانضمام سيد إليهم فرحاً عظيماً وعَدّوا ذلك نصراً مؤزراً، فرجل بمثل هذه المكانة وأصبح لديه عداء شخصي مع عدو الإخوان اللدود –عبد الناصر– فجدير بأن يُصدر وسرعان ما تقلد سيد داخل الجماعة عدداً من المهام والأعمال الثقافية فقد تولى رئاسة التحرير لجريدة الإخوان المسلمون، وكان يعطي أحاديث الثلاثاء في المركز العام، وقام بتمثيل الإخوان في المؤتمر الإسلامي الشعبي بالقدس الشريف وغير ذلك من الأعمال التربوية والثقافية، ولم يصل إلى مرحلة قيادة الأعمال الحركية بعد.
لاتوجد تعليقات