
أفعال النبي – صلى الله عليه وسلم – لم تكن اجتهادًا بشريًّا بل كانت وحيًّا إلهيًّا
ليس من المستغرب أن نسمع بعض التغريبيين يقول: إن أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ليست من الدين، فهؤلاء قد أفنوا حياتهم ليسقطوا كتب التراث وكتب السنة، وهم يردون السنة إلى السنة الفعلية فقط التي تناقلها الناس عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكن من أعجب العجب أن يخرج من ينتسب إلى الإسلام والسنة فيقول: إن أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم - ما هي إلا اجتهاد بشري، وأنه ليس من الصحيح أن نقوم بتصدير أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم - على أنها الدين، وفي ذلك من الكذب والتدليس ما تنبغي الإشارة إليه والتحذير منه، كيف؟ والله -عز وجل- قال: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}.
القرآن يرد عليهم
ليس أبين من آيات القرآن الكريم في الرد على هذه الشبهة وهذا التدليس، قال -تعالى- متحدثاً عن أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3، 4)، ويظهر لكل ذي عينين أن كلمة (وحي) تعني أن هذا المنطوق من الدين، وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (المائدة: 67)، ويظهر من الآية أن الرسول مأمور بالبلاغ ولو لم يكن فعله وقوله مما يبين ما جاء به الوحي فلا يكون النبي قد بلغ الرسالة؛ لأن المقصود بلاغها وبيان المراد منها وكيفية تطبيقها، وهذا معنى قوله -تعالى-: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 44) وقال -تعالى-: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (الجمعة: 2)، وإن لم يكن التعليم بالقول والفعل فبم يكون؟
السنة قول وفعل وتقرير
جرت عادة الأصوليين أن يعرفوا السنة بأنها أقواله وأفعاله وتقريراته -صلى الله عليه وسلم -، فإذا كان القول والفعل معلومين فإن التقرير هو أن يرى النبي -صلى الله عليه وسلم - من الصحابة شيئاً فلا يأمرهم به ولا ينهاهم عنه، ومثال ذلك ما ورد في الركعتين بعد أذان المغرب وقبل الصلاة، فقد روي عن أنس -رضي الله عنه- قال: «كنا نصلي على عهد رسول الله -صلى الله وسلم- ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب؛ فقلت له: أكان رسول الله صلاهما؟ قال كان يرانا نصليهما فلا يأمرنا ولا ينهانا»، ونحن نؤكد في هذا الباب أن السنة التقريرية أيضاً من الدين، فلا يقول أحد: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعلها! بل نقول: إن النبي -صلى الله عليه وسلم - جاء يبلغ الرسالة ويعلم الناس الدين؛ فإذا رأى فيهم ما ليس من الدين، قوّمه ورده، ولوسكت، لكان كاتماً وحاشا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أن يفعل ذلك، تقول السيدة عائشة -رضي الله عنها-: ثلاث من حدثكهن فقد كذب، وذكرت منها: «ومن حدثك أنه كتم فقد كذب، ثم قرأت: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ.. الآية»، رواه البخاري ومسلم. وفي حديث المسيء صلاته لم يقر النبي -صلى الله عليه وسلم - الرجل بل ناداه وعلمه.
لماذا أقر النبي عبد الله بن أبي وتركه رغم أنه منافق؟
يقولون: إذا كانت أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم - سنة ودينا، فهل من الدين والسنة أن يترك النبي -صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن أبي بن سلول وهو رأس النفاق؟ أليس هذا دليلاً على أن أفعال النبي اجتهادات بشرية؟! والجواب على ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم - ترك عبد الله بن أبي لأمر شرعي وحكمة دينية وهي ما ذكره -صلى الله عليه وسلم - في قوله: «حتى لا يقول الناس: إن محمداً يقتل أصحابه» قال ابن تيمية -رحمه الله-: «إقرار النبي -صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن أبيّ وأمثاله من أئمة النفاق والفجور لما لهم من أعوان فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم وبنفور الناس إذا سمعوا أن محمداً يقتل أصحابه»؛ فلم يكن إقراراً منه للنفاق بل كان ذلك لمصلحة دينية شرعية.
معنى قول أم المؤمنين عائشة: كان قرآناً يمشي على الأرض
يقول المدلسون إن قول أمنا عائشة -رضي الله عنها- واصفة النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كان قرآناً يمشي على الأرض»، مجرد مجاز وليس حقيقة، فأفعاله لم تكن القرآن نفسه وإنما اجتهاد بشري في تطبيق القرآن، وكل إنسان منا - هكذا يقولون - له أن يقرأ القرآن ويطبقه بحسب قناعاته؛ لأن فعل النبي -صلى الله عليه وسلم - وجهة نظر من وجهات نظر متعدد! وكذبوا؛ فالحق أن معنى قول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- كان متمثلاً للمنهج القرآني؛ ولذا ورد عنه -صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، وقال: «خذوا عني مناسككم»، وقال الله -تعالى- عن سبيل النبي -صلى الله عليه وسلم -: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}. (النساء: 115).
الثوابت والمتغيرات في أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم
إن من تدليس المدلسين النظر إلى بعض أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم - التي كانت بناء على مصلحة اقتضت ذلك، ليستدلوا على أن أفعاله -صلى الله عليه وسلم - ليست ملزمة لنا، وهذا تدليس بين؛ لأن مثل هذه الأفعال تتم في أصول الدين التي قررها النبي -صلى الله عليه وسلم - بأقواله وأفعاله، فحكم الأشياء ثابت، والفتوى قد تتغير بتغير الزمان والمكان ولا يصدر الحكم فيها إلا أهل العلم، لا أن كل إنسان له أن يجتهد بحسب قناعاته؛ فالأحكام الشرعية لا تكون إلا من أهل العلم، قال -تعالى-: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}. وقال -تعالى-: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} (المؤمنون: 71). كما خلطوا بين الأفعال الجِبِلِّيَّة التي فعلها النبي -صلى الله عليه وسلم - باعتبار جبلته وبيئته وبين الأفعال التشريعية المرتبطة بالأجر والثواب والعقوبة.
هل القرآن حمال أوجه والنبي مجتهد فيه؟
يقول المدلسون: إن القرآن حمال أوجه وإن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - مجرد اجتهاد بشري لفهم هذا القرآن، يريد المدلسون من وراء ذلك أن التصرفات التي صدرت عن النبي -صلى الله عليه وسلم - وجه من هذه الأوجه، ولو كان الأمر كما يقولون لما كان في الرجوع إلى فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الاختلاف فائدة، قال -تعالى-: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر}، ولو كان الأمر كذلك لكان لفهم المتطرفين الذين يكفرون المسلمين وينزلون فيهم نصوصاً نزلت في غير المسلم، لكان لكل ذلك مسوغا، وقد أجمع المسلمون أن الرد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عند التنازع واجب، قال -تعالى-: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء: 59)، والرد إلى الرسول رد إلى سنته التي حوت أقواله وأفعاله وتقريراته، ولو كانت هذه الأفعال لا ترفع التنازع فكيف يأمر الله بالرجوع إليها؟
الأفعال التشريعية وغير التشريعية
عاش السلف الصالح منذ الصحابة جميعاً لا يخرجون شيئاً من أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - من دائرة التأسي، فتراهم يتشبهون به في كل أحواله، بل وينقلون عنه - صلى الله عليه وسلم - طريقة أكله وشربه ولبسه ومشيه وضحكه وجلوسه وغير ذلك، وكان الرجل منهم يروي حديثاً فيضحك فيقال له: لم تضحك؟ قال: رأيت رسول الله يحدثنا بهذا الحديث وضحك. حتى إن سيدنا عبد الله بن عمر جذب خطام دابته يوماً في مكان فسئل عن ذلك فقال: لأني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك هنا. ثم خلف من بعد ذلك خلوف يريدون تضييق الاحتجاج بالسنة فقسموها إلى تشريعية وغير تشريعية، وحتى الأقسام التي قرر علماء الأصول أننا غير ملزمين بها من أفعاله الجبلية -صلى الله عليه وسلم - لم يخرجوها عن السنة التشريعية؛ لأنها في قسم المباح، والإباحة من الأقسام التشريعية الخمسة، فمن رأى أن هذه الأفعال (غير الملزمة) مسوغا للتحرر من السنة كلها فقد ضل ضلالاً مبينًا، وخالف ما انعقد عليه إجماع المسلمين طيلة القرون الماضية. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
لاتوجد تعليقات