
أساليب النقد وتصحيح الأخطاء (2)
ما زال الحديث موصولاً عن أساليب النقد وتصحيح الأخطاء وقد ذكرنا في المقال السابق طرفًا من الأحاديث النبوية التي استنبط منها بعض الباحثين تلك الأساليب لتصحيح الأخطاء، وذكرنا منها النقد عن طريق بيان حكم شرعي، والنقد عن طريق تصحيح التصورات والمفاهيم، والنقد بالموعظة والتكرار، والنقد بأسلوب الاستفسار التحقيق ثم الحلول، وملازمة الهدوء في النقد والتفكير في الحلول، واليوم نكمل ما بدأناه.
السادس: النقد بذكر خطورة الخطأ أو ضرره
هذا أسلوب آخر من أساليب النبي - صلى الله عليه وسلم - في توجيهاته في النقد، وهو أن تبين للمخطئ ما يترتب على هذا الأمر من الخطورة والضرر - دنيوية كانت أم أخروية - ولا شك أن هذا الأسلوب مفيد جدا كما سيتضح بالأمثلة الحديثية: عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، أن أباه حدثه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج، وساروا معه نحو مكة، حتى إذا كانوا بشعب الخزار من الجحفة، اغتسل سهل بن حنيف وكان رجلا أبيض، حسن الجسم، والجلد، فنظر إليه عامر بن ربيعة أخو بني عدي بن كعب وهو يغتسل، فقال: ما رأيت كاليوم، ولا جلد مخبأة فلبط بسهل، فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقيل له: يا رسول الله، هل لك في سهل؟ والله ما يرفع رأسه، وما يفيق، قال: «هل تتهمون فيه من أحد؟» قالوا: نظر إليه عامر بن ربيعة فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عامرا، فتغيظ عليه وقال: «علام يقتل أحدكم أخاه؟ هلا إذا رأيت ما يعجبك برَّكت؟» ثم قال له: «اغتسل له» فغسل وجهه، ويديه، ومرفقيه، وركبتيه، وأطراف رجليه، وداخلة إزاره في قدح، ثم صب ذلك الماء عليه، يصبه رجل على رأسه، وظهره من خلفه، يكفئ القدح وراءه، ففعل به ذلك، فراح سهل مع الناس ليس به بأس. مسند الإمام أحمد: مسند سهل بن حنيف 25/355-356.
وعن ابن عباس، أن رجلا لعن الريح - وقال مسلم إن رجلا نازعته الريح رداءه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلعنها -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تلعنها، فإنها مأمورة، وإنه من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه» صحيح: سنن أبي داود، كتاب الأدب 4/278.
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَدَحَ رَجُلٌ رَجُلًا، عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: فَقَالَ: «وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ» مِرَارًا «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا صَاحِبَهُ لَا مَحَالَةَ، فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلَانًا، وَاللهُ حَسِيبُهُ، وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللهِ أَحَدًا أَحْسِبُهُ، إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَاكَ، كَذَا وَكَذَا». صحيح مسلم: كتاب الزهد 4/2296.
السابع: النقد بأسلوب تعليمي
وهذا الأسلوب من أساسات أساليب النقد وأشدها أثرا، وقد فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - كما سنلاحظ في الأمثلة الآتية: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ المسْجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ، فَصَلَّى، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَرَدَّ وَقَالَ: «ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ»، فَرَجَعَ يُصَلِّي كَمَا صَلَّى، ثُمَّ جَاءَ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» ثَلاَثًا، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي، فَقَالَ: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا» صحيح البخاري: كتاب الصلاة 1/152.
وعَنْ شَقِيقٍ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَجْنَبَ فَلَمْ يَجِدِ المَاءَ شَهْرًا، أَمَا كَانَ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي؟ فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ المَائِدَةِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (النساء: 43) فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَوْ رُخِّصَ لَهُمْ فِي هَذَا لَأَوْشَكُوا إِذَا بَرَدَ عَلَيْهِمُ المَاءُ أَنْ يَتَيَمَّمُوا الصَّعِيدَ. قُلْتُ: وَإِنَّمَا كَرِهْتُمْ هَذَا لِذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ عَمَّارٍ لِعُمَرَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَاجَةٍ، فَأَجْنَبْتُ فَلَمْ أَجِدِ المَاءَ، فَتَمَرَّغْتُ فِي الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَصْنَعَ هَكَذَا، فَضَرَبَ بِكَفِّهِ ضَرْبَةً عَلَى الأَرْضِ، ثُمَّ نَفَضَهَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا ظَهْرَ كَفِّهِ بِشِمَالِهِ أَوْ ظَهْرَ شِمَالِهِ بِكَفِّهِ، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ» صحيح البخاري: كتاب التيمم 1/77.
وعن ابن مسعود قال: كنا إذا صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نقول: السلام على الله، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقولوا: السلام على الله فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله». صحيح: سنن النسائي، كتاب التطبيق 2/240.
الثامن: التصحيح وإيجاد البديل
ومن الأساليب المثمرة ألا نكتفيَ بالإنكار أو بالتخطئة فقط، بل أحياناً يتطلب الأمر أن نقدم البدائل لما نريد تغييره. وفيما يأتي أمثلة من أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم -: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم - رَأَى نُخَامَةً فِي القِبْلَةِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُئِيَ فِي وَجْهِهِ، فَقَامَ فَحَكَّهُ بِيَدِهِ، فَقَالَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلاَتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ، أَوْ إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ القِبْلَةِ، فَلاَ يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ قِبَلَ قِبْلَتِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ» ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ، فَبَصَقَ فِيهِ ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، فَقَالَ: «أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا». صحيح البخاري: كتاب الصلاة 1/90.
وعن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ -رضي الله عنه -، قَالَ: جَاءَ بِلاَلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم - بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم -: «مِنْ أَيْنَ هَذَا؟»، قَالَ بِلاَلٌ: كَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِيٌّ، فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ، لِنُطْعِمَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذَلِكَ: «أَوَّهْ أَوَّهْ، عَيْنُ الرِّبَا عَيْنُ الرِّبَا، لاَ تَفْعَلْ، وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ فَبِعِ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ، ثُمَّ اشْتَرِهِ». صحيح البخاري: كتاب الوكالة 1/103.
التاسع: نقد غير مباشر
وهذا من أكثر ما استعمله النبي -صلى الله عليه وسلم - في خطبه وتوجيهاته، وهو أسلوب نقد تربويّ، لما يرجى من عقبه من ثمار، وهو:
- ستر العورات ومحبة المخطئ لمن واجهه بهذا الأسلوب.
- تجنب الفضيحة ورد الفعل من المخطئ.
- أن يرجى منه قبولاً وتأثيراً بالغاً.
ومن أمثلته في السنة النبوية: ما رُوي عن عائشة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- في حديثها الطويل - حديث الإفك- وكان مما قالت: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - مِنْ يَوْمِهِ فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي عَنْهُ أَذَاهُ فِي أَهْلِي، وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، وَمَا يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي». صحيح البخاري: كتاب المغازي 5/116.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - رَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: «مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يَقُومُ مُسْتَقْبِلَ رَبِّهِ فَيَتَنَخَّعُ أَمَامَهُ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يُسْتَقْبَلَ فَيُتَنَخَّعَ فِي وَجْهِهِ؟ فَإِذَا تَنَخَّعَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَنَخَّعْ عَنْ يَسَارِهِ، تَحْتَ قَدَمِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَقُلْ هَكَذَا» وَوَصَفَ الْقَاسِمُ فَتَفَلَ فِي ثَوْبِهِ، ثُمَّ مَسَحَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ. صحيح مسلم: كتاب المساجد 1/389.
عَنْ مَسْرُوقٍ: قَالَتْ عَائِشَةُ: صَنَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا فَرَخَّصَ فِيهِ، فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -[-، فَخَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً». صحيح البخاري: كتاب الأدب، باب من لم يواجه الناس بالعتاب 8/26.
العاشر: مراعاة حدود النقد وحفظ مكانة المخطئ
إن الإسلام جاء لمراعاة الحقوق وألاّ يبغي أحد على أحد، وفي حديث عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ أَخِي بَنِي مُجَاشِعٍ، قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ خَطِيبًا، فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي» وفِيهِ «وَإِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ». صحيح مسلم: كتاب الجنة، باب الصفات التي يعرف بها أهل الجنة وأهل النار 4/2198
ومن هذا المنطلق والإرشاد النبويّ، يجب أن تراعى الحقوق في نقد الآخرين وألاّ تتجاوز في حدودها، وهذا ما سنستفيد من هذه الأمثلة إن شاء الله -تعالى-: عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه ، أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم - كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم - قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: اللَّهُمَّ العَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ، إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ».
وفي رواية أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِسَكْرَانَ، فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ. فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ رَجُلٌ: مَا لَهُ أَخْزَاهُ اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم -: «لاَ تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ». صحيح البخاري: كتاب الحدود 8/158.
لاتوجد تعليقات